لا يمكن لأي دولة أن تستمر قوية، مرهوبة الجانب، محترمة التوجه، إلا إذا كان لها – إضافة إلى القوة الصلبة – قوة ناعمة... بمضمون وقدر مناسبين. ولعل أهم عناصر القوة الناعمة، هي - من بين بقية المكونات - العقائد والقيم والمبادئ السامية، التي يقدرها ويحترمها غالبية البشر الأسوياء، في كل زمان ومكان، وفي مقدمتها الالتزام الفعلي بمبادئ: الحرية والعدالة والمساواة، والديمقراطية، والتكافل الاجتماعي... وغير ذلك. ويمكن، في الواقع، اعتبار أن: تأييد (ورضا) الناس والرأي العام للدولة – أي دولة – فيما يتعلق بعناصر القوة الناعمة، يعطي الدولة قوة ونفوذا... بينما سخط (ومعارضة) الناس والرأي العام، لدولة معينة في هذا الشأن، ينقص من قدرها، ويهز مكانتها، ويضعف موقفها... لهذا، فإن على الدولة التي تريد حقا حماية وتنمية «مكانتها»، أن تحمي وتنمي قوتها الصلبة، والناعمة كذلك، وتحرص على كسب التأييد الشعبي، وتحاول جهدها الحصول على أكبر قدر ممكن من التأييد الدولي الإيجابي، وأن تتجنب العداوات، بأنواعها. الدولة كالإنسان... تحب، وتكره، وتقوى وتضعف، وترضى وتسخط، وتقبل وترفض، وتؤثر وتتأثر... الخ. فالإنسان يتجسد، في الواقع، في هيئة: فرد أو جماعة أو تنظيم، أو دولة، أو منظمة. *** وقد تبين مؤخرا أن «المراكز الثقافية للدول» تعتبر من أكثر عناصر التأثير الإيجابي في الآخرين، وهي الآن في مقدمة عناصر القوة الناعمة لأي دولة، وتدرج كأصل لما يعرف بالدبلوماسية الشعبية، التي تحسب، بدورها، كعنصر من أهم عناصر القوة الناعمة للدول. ونظرا لما تحققه الدبلوماسية الشعبية من تأثير ووقع إيجابي لدى الشعوب الأخرى، أصبحت توصف بأنها مكسب يفيد طرفي العلاقات الدولية المعنية، ويحقق مبدأ «الفوز المشترك» (Win – Win Situation). ويعرف «المركز الثقافي الدولي» بأنه: جهاز ثقافي مبتعث، يهدف لتمكين شعوب الدول المضيفة له من فهم وتفهم الفكر السائد في دولته، وثقافتها وقيمها وأنظمتها وقوانينها، ومؤسساتها المختلفة، بغية إقامة علاقات وثيقة بين دولته، وشعوب البلاد المستضيفة، في كل المجالات، وكسب ودها وتعاطفها، ودعمها لقضايا دولة المركز، وتثمين حضارتها، والإعجاب بإنجازاتها. وهو يمثل الجانب الثقافي الرئيس لسفارة بلده، ويعتبر محور الدبلوماسية الثقافية المعبرة عن روح أمته، والساعية لكسب ود الشعوب المضيفة... تمهيدا للتأثير فيها، بما يوثق العلاقات بين بلده والبلد المضيف، ويضمن مودة ودعم الدولة المضيفة. ويهدف المركز الثقافي إلى: إبراز قيم ومبادئ وثقافة دولته، بشكل إيجابي. إذ يتمحور عمله حول إقامة: الدورات والبرامج الثقافية وورش العمل، الترجمة والتأليف والنشر، التعاون العلمي الدولي، المعارض الثقافية والفنية، تعليم ونشر لغة بلاده، والتدريب. *** ولعل أهم الدول الرائدة في إقامة هذه المراكز، والاستفادة منها، كل من: - فرنسا التي أسست معهد «اليانس فرانسيز» عام 1883م: له الآن 850 فرعا في 136 دولة. - روسيا: وقد أسست المراكز الثقافية الروسية عام 1917م، ولها الآن 44 فرعا حول العالم. - بريطانيا: وأسست «المجلس الثقافي البريطاني» عام 1934م، وله الآن 129 فرعا في 110 دول. هذا، إضافة إلى كل من: ألمانيا، أمريكا، إيران، إسبانيا، الصين. *** إن الدول، مهما بلغت قوتها الصلبة، تحتاج للقوة الناعمة، التي لا يمكن تحقيق الكثير من الأهداف الإستراتيجية لها إلا عبرها، وباستخدامها وممارستها، وخاصة من خلال المراكز الثقافية ذات التأثير الواسع. ومعظم الدول كثيرا ما تعاني انحسارا في مدى نفوذها هنا أو هناك. ويتم تدارك هذا الانحسار عبر: تكثيف استخدام قوتها الناعمة، ورفع مستوى مضمونها، ومن ثم تأثيرها. ومن الأمثلة على ما نقول هنا: ما عانت منه أقوى دول العالم، في عهد رئيسها السابق بوش الابن بخاصة، وهي الولاياتالمتحدة، من «ضعف» ملحوظ في قوتها الناعمة... فهذه الدولة، التي تمتلك الآن أقوى «قوة خشنة» في العالم، افتقرت، بسبب بعض سياساتها السلبية – لتأييد (ورضا) معظم الرأي العام العالمي، وبخاصة في العالمين العربي والإسلامي، لعدم التزامها الحقيقي بالمبادئ السامية... حتى تلك التي تدعي حمايتها. خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية بزخم كبير من القوة الناعمة... سرعان ما بدأت تفقد معظمه، عندما شرعت في تحقيق أهداف غير مقبولة... كما هو معروف عن السياسات الأمريكية... الناجمة عن: هيمنة الحركة الصهيونية (وبعض أصحاب المصالح الخاصة) على صناعة القرار السياسي الأمريكي. والنتيجة كانت – ولا تزال – رفض ومعارضة أغلب مثقفي ومفكري العالم لهذه السياسة، واستياء من الدولة التي تمارسها. ولا شك أن هذه الحقيقة أكدت وجود تدهور في القوة الناعمة الأمريكية... وأضعفت (بالتالي) الموقف العالمي العام لأمريكا... رغم صلابة قوتها الخشنة. وهذا ما قاله – صراحة وضمنا – المفكر الأمريكي «فرانسيس فوكوياما»، في كتاب أصدره في مارس 2006م - بعنوان «أمريكا في مفترق طرق»، عن مطبعة «جامعة ييل»، وغير فوكوياما من المفكرين الأمريكيين. وتحاول أمريكا الآن استعادة قدر كبير من القوة الناعمة التي افتقدتها، على المستويين الإقليمي والعالمي. ويبدو أن هذا لن يتم إلا بتبنى تعديل نوعي في السياسات الخارجية الأمريكية بخاصة.