«ولكنْ سكّتَكْ تحتارْ أبَدْ.. بين الندى والنارْ».. أدهشني أيضًا وهو يخاطبُ الليلَ بلغةٍ مغايرةٍ للكلام المستهلك، مغايرةٍ لكل ذلك الكلام الذي يقبعُ في مستودع الغبار، هكذا: «ما أطولَكْ ليلْ! سارقْ من عيوني النهارْ».. «يا ليلْ أنا رَبْعِي هناكْ وداري ورا الدمعةْ، وراكْ». يرسمُ البدر صورةً فاتنةً للمرأة حين تمرُّ ليلا، لأنه عاشقٌ يكتبُ بحبر القلب يرى المرأةَ عطرا ووردةً: «ليلة تمرّينْ.. عطركِ السافرْ فضحْ ورد البساتينْ. وكثر الكلامْ صحيحْ جرّحْتِ الظلامْ بالخدّ وبنورْ الجبينْ ليلة تمرينْ».. ويبدعُ جدا حين يبتكرُ مشهده الشعريّ الذي يضاهي المشهد السينمائي حركةً وغوايةً وجمالا يشدُّ إليه العيون، متمكنا من كتابة قصيدة التفعيلة في بنيتها المتقنة: «يا عَذْبَةَ التجريحْ شفتِكْ في عرسْ الريحْ والشالْ الذهبْ يحجبْ سنا الشمسْ الذهبْ كانتْ عيونكْ حزنْ كانت غضبْ.. وكثر الكلامْ». وكما أن البدر برع في رسم المرأة الجميلة العاشقة، برع أيضا في رسم صورة للمرأة الغارقة في نرجسيتها، الغارقة في ماء المرايا، ومشاغل الذات، هكذا: «كلنا عشّاقْ.. لكنْ. أنتِ لا ما انتِ معايا ولمّا تجمعنا الأماكنْ تأخذك مني المرايا».. وكم هو فاتن حين يمعن في رسم البوح المغاير حين يخاطب الحبيب بما ليس مألوفا في غنائنا: «تاقفْ على طرْفْ الهدَبْ.. ما تلمحكْ عيني».. وحين يسرد حكايته للحبيب، يسردها بلغة يكسر فيها لغة السرد الجاف ولغة الشعر المحنط كالمومياء، هكذا: «ما اكذبْ عليكْ، البارحه شافوكْ رعشة هدَبْ، لَفْتَهْ. ما اكذبْ عليك، البارحه شافوكْ في النوم الذي عِفْتَهْ.». ويؤكد هذا البوح الطازج كخبز الأمهات مرة أخرى وهو يحدث من احتلت الفؤاد بأنه يعرفها جيدا، يعرف أوصافها المدججة بالأنوثة ونيرانها، هكذا: «أنا أعرفكْ، يا اختَ النهارْ الشمسْ تجذبكِ بنسَبْ لو أوصفكْ وردة ونارْ جرحّني شوككْ واللهبْ». البدر الذي يرى أننا في زمنٍ بات فيه فراقُ الأحبة «أسهلْ من الكذبه على شفّة طفِلْ»، يروي للحبيبة ما يفعل به غيابها بهمسٍ قاتل: «قصّتْ جناح الثواني غيبتِكْ.. وصارتْ الساعه أماني». ويكمل همسه المدجج بالعتاب والألم والعذاب: «أنا حروفي في غيابكْ لا هي حكي، ولا هي قصيدْ أكتب الظلمه.. واعيدْ وانت يا الفجرْ البعيدْ نامتْ عيونكْ». هذا ما يحدثُ له ليلا، أما ما يحدث له في نهار العشق الحارق فهو ما يمكن وصفه بالحرائق التي لا تفنى: «أسندْ على كفّي السما وأناظرْ الشمسْ أشربْ عن عيونكْ ظما أشربْ ظما الشمسْ» وفي رقّةٍ لا يلامسها على المستوى الشعري إلا من كان شاعرا حقيقيا، يهمس البدر لمن سكنت القلب تلك التي «جاءتْ من النسيانْ / من كل الزمان» طالبًا منها أن تفعل شيئا مع الزمن، أن تنادي الليالي لكي يسترد وجهه الضائع منذ زمن بعيد في ريف عينيها: «ريّانةَ العودْ نادي الليالي تعودْ بشوقْ الهوى، بوعودْ وجهي اللي ضيّعتُهْ زمانْ في عيونكِ السودْ». البدر شاعر يذهب إلى القصيدة مؤثثا بشجن العاشق الذي ظلّ وفيا لمن ظلّ وفيا للغياب / للسفر / للحقائب / للرحيل / للنأي.. ظلّ بجوار قلبه على رصيف الليل، في عتمة العشق، ينتظران الحبيب الذي لم يأتِ، كما لو أنهما كانا ينتظران «جودو»، أو الذي يأتي ولا يأتي.. حين أقرأ له هذا المقطع يدمع قلبي بحرقةٍ لا نظير لها: «يا الله يا قلبي تعبنا من الوقوفْ ما بقى بالليلْ نجمه ولا طيوفْ ذبلَتْ أنوارْ الشوارعْ وانطفى ضي الحروفْ يا الله يا قلبي سرينا.. ضاقتْ الدنيا علينا.. القطارْ وفاتنا.. والمسافرْ راحْ».. أخيرا، أترككم مع هذا المقطع «السوريالي» الذي غناه فاتننا الكبير طلال مداح بجرأة بالغة، لأنه نص يغرد في فضاءٍ آخر لم تعتد عليه الأغنية العربية: «شعاعٍ يدخل الغرفة بعد العصر.. يزحفْ فوق سجادةْ ويطلعْ فوق هالكرسي ويمكن يلمس وسادةْ ولحظة ما لمحته خافْ تراجعْ.. طاح من الكرسي.. وركض قبل النهار يمسي.. ورجع للشمس كالعادةْ». * شاعر سعودي وأنا أتتبع الأغاني التي كتبها بدر بن عبدالمحسن وصدح بها عدد كبير من المغنين كطلال مداح ومحمد عبده وعبدالكريم عبدالقادر وعبدالرب إدريس وعبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد وسواهم، لفت نظري البدر وهو يكتب شعرا مختلفا عن الشعر الغنائي السائد، البدر يكتب شعرا حديثا جدا بلغة محكية، فهو بلغة اللسان اليومي يرسمُ صورا ليست مألوفةً، بل مسكونة بدهشة تأسر القلب.. أدهشني وهو يخاطب الحبيب قائلا: