أزمة صغيرة شكلا وكبيرة مضمونا، اندلعت في لبنان بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، بسبب مرسوم عرف بمرسوم «ترقية الضباط»؛ إذ يرى رئيس الجمهورية أن لا حاجة لتوقيع وزير المالية على المرسوم، بينما يرى رئيس مجلس النواب وجوب توقيع الوزير بجوار توقيع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ورأي بري هو الصواب بعينه؛ لأن موقفه مسلح بالدستور وبخبراء القانون وبالمراسيم السابقة المشابهة. وفي ظل الأزمة التي لم تعرف حلا إلى اللحظة، نعى رئيس مجلس النواب اتفاق الطائف الذي انتهكه رئيس الجمهورية، وهو يلمح في ذلك إلى موقف عون السلبي من الاتفاق أثناء الحرب الأهلية قديما وقبيل انتخابه لرئاسة الجمهورية حديثا، ولم يكذب الجمهور العوني تلميحات بري، فأطلقوا بشكل غير رسمي حملة في مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بتعديل الطائف، وكان زعيمهم أثناء مباحثات الطائف عدو الاتفاق الأول والأخير، وقبيل رئاسة الجمهورية صوب سهامه على الاتفاق تلميحا وتصريحا. وتصويب حلفاء إيران على اتفاق الطائف ليس جديدا؛ إذ بدأ تشكيكهم ونخرهم في الاتفاق منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري سنة 2005، ففتحوا موضوع تحول النظام اللبناني من المناصفة بين المسلمين والمسيحيين إلى المثالثة بين السنة والشيعة والموارنة، لكن هذه المحاولة، في حينه على الأقل، اصطدمت بحائط أصم، فتحايلوا عليها بمطلب الثلث المعطل الذي يمنع الأكثرية من حكم السلطة التنفيذية، وقبل ذلك حيلة «الحوار الوطني» لتفريغ الأغلبية البرلمانية من قوتها الأكثرية، ولم تعقم الحيل، فوجدنا إصرارا أزليا على إسناد حقيبة وزارة المالية إلى الطائفة الشيعية الكريمة، لتتحقق المثالثة في المراسيم: رئيس الجمهورية الماروني، ورئيس الحكومة السني، ووزير المالية الشيعي، وهم بذلك أخذوا ما هو أكثر من المثالثة؛ لأن رئاسة مجلس النواب من حصتهم أيضا، وربما كان منطقيا أن يطالب الدروز أو الروم الأرثوذكس بهذه الوزارة. تعرض اتفاق الطائف للظلم غير مرة، فعهد الوصاية السورية شوه الاتفاق بالإصرار على تطبيقه المتعسف، وبعد اغتيال الرئيس الحريري ظلم مجددا بفضل دعايات إيران وسياساتها التي حولته هدفا لسهام نظرية تحالف الأقليات، أي تكالب غير السنة على السنة، وليتم ذلك زعموا أن اتفاق الطائف حول لبنان من حكم الماروني إلى حكم السني، أو أنه سلب صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة رئيس الحكومة، وتفاقم كذبهم، فقالوا إن الفراغ الذي عانت منه رئاسة الجمهورية بعد الولاية الممدة لإميل لحود والولاية الشرعية للرئيس ميشال سليمان سببه اتفاق الطائف. اتفاق الطائف بريء من مزاعمهم، فالصلاحيات التي خرجت من رئيس الجمهورية ذهبت إلى مجلس الوزراء مجتمعا الذي يشارك فيه المسلم والمسيحي، والسني والشيعي والماروني، وتحول النظام السياسي من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، لكنه نظام برلماني مشلول أو مكبل، فرئيس الحكومة مقيد والبرلمان لا يقوم بدوره كما يجب، والوصاية السورية ثم السلاح الإيراني جثما على الدستور والحياة السياسية، فتارة تعطيل بحجة انتظار التوافق، وتارة تحت تهديد السلاح، الذي يريد أن تكون الدولة تحت سلطانه، بدلا من أن يكون هو تحت سلطان الدولة. ويقوم أبواق إيران في لبنان - باستمرار - بالتهويل على اللبنانيين وعلى السنة بضرورة تعديل اتفاق الطائف، وحاولوا استخدام الطائف كورقة ضغط على السعودية راعية الاتفاق، وكأن الاتفاق من مصلحتها وليس من مصلحة اللبنانيين، فاتفاق الطائف أوقف حالة الحرب في لبنان لا في السعودية، وإلغاؤه ربما يوقف حالة السلم اللبناني البارد، وهذا ليس من مصلحة اللبنانيين، ولولا أخلاقية دول الاعتدال العربي لانساقت وراء هذا السيناريو لتشغل الميليشيات الإيرانية ببيئتها فتتوقف قسرا عن ممارسة الإرهاب في دول الخليج والعرب. لا بد أن يفهم الجميع القواعد التي شكلت اتفاق الطائف؛ لأن هذه القواعد، هي نفسها التي ستحكم أي اتفاق جديد، عاقب اتفاق كل من تورط في التعطيل والسلاح غير الشرعي، وكافأ المؤمنين بمنطق الدولة ومنهج السلم والحوار، لذا كان طبيعيا أن تخرج الميليشيات خالية الوفاض من المكاسب الدستورية، وكان طبيعيا أن يتحول النظام من رئاسي إلى برلماني بعد أن شاهد العالم تعطيل الدولة بالفراغ بعد ولاية الرئيس أمين الجميل (1982- 1988)، لذلك حين تطبق هذه القواعد اليوم لن تكون ثمة مكاسب لحلفاء إيران كما يتصور البعض، بل إن العكس هو الصحيح، فالميليشيات المسماة بحزب الله مصنفة دوليا تحت خانة الإرهاب، وجرائمها مشهودة في العراق وسورية واليمن ودول الخليج، ومتهمة باغتيال لبنانيين في المحكمة الدولية، ولا ننسى تعطيل الدولة غير مرة، وقامت الأغلبية المارونية النيابية (التيار الوطني الحر - العونيون) بتغطية التعطيل والإرهاب والسلاح غير الشرعي داخل لبنان وخارجه، ونتائج ذلك - عاجلا أو آجلا - وخيمة على الفاعلين وعلى لبنان ككل، أي أن حزب الله ومن والاه لن ينالوا مكافأة على أفعالهم حتى لا يتم مستقبلا تشريع قيام أي طائفة بهذه الجرائم لتحسين أوضاعها، فيدخل لبنان وغيره في دوامة فوضى لا نهاية لها. قارن اليوم بين الوزن الدولي للرئيس سعد الحريري والوزن الدولي لرئيس الجمهورية ولرئيس مجلس النواب، وهذا التباين في الوزن الدولي ليس وليد اللحظة، بل يعود إلى لحظة كتابة الطائف، الذي عبر عن انتقال دور همزة الوصل في المنطقة بين الشرق والغرب من المسيحيين إلى السنة، وراعى أيضا البعد الأكثري في التركيبة اللبنانية، وهذه أبعاد ستتم مراعاتها في أي اتفاق جديد، ومن أثر لعنة السلاح الإيراني على الطائفة الشيعية، أنه يمنعها من المطالبة بإبدال رئاسة الجمهورية برئاسة مجلس النواب بين الموارنة والشيعة، والمشكلة هنا ليست السلاح ومحاسبة الإرهابيين فقط بل ولاء ظاهر لإيران، لذلك ستبقى الرئاسة مسيحية، لكن هل ستبقى مارونية؟، لماذا فرط الموارنة في إيصال سياسيين مثل الدكتور سمير جعجع وبطرس حرب وقبلهما نسيب لحود إلى رئاسة الجمهورية مكتفين بميشال سليمان؟ وما يعزز الحقائق السابقة، أن أداء الرئاسة الأولى في العهود الموالية لإيران شهدت انتهاكات فاضحة للدستور، فلو عدنا إلى عهد إميل لحود مثلا، نتذكر طريقة تشكيل الحكومة الأولى في عهده التي نسفت دستور الطائف من أساسه، ثم تشكيله لغرفة الأوضاع في قصر بعبدا التي انتهكت كل القوانين والمؤسسات، وفي عهد عون هناك إصرار - باسم الدولة - على تغطية سلاح حزب الله دوليا ومحليا، وتبني صهره ورئيس حزبه ووزير خارجيته جبران باسيل لخطاب يستفز المسلمين والعرب؛ إذ يكفي أنه يعتبر - في مفارقة ساخرة - صلب العروبة في التحالف مع إيران الفارسية ويجد معنى العمالة في التحالف مع الدول العربية والخليجية، فضلا عن حصر الإرهاب في السنة ولا أحد سواهم. لن يفتح الباب لتعديل اتفاق الطائف أو تغييره إلا بعد تطبيقه، ولا يستنفد اتفاق الطائف أهدافه ومبناه إلا بعد تطبيق 3 بنود: نزع سلاح كل الميليشيات الموجودة في لبنان، إلغاء الطائفية السياسية وتأسيس مجلس شيوخ لرؤساء الطوائف لبحث القضايا المصيرية. وإلا فكما عطل سلاح حزب الله تطبيق اتفاق الطائف بإمكانه تعطيل وتشويه أي اتفاق بعده، لذا يحاول حزب الله الاحتيال على مصيره وأوضاعه، وكل خططه الآن منصبة على الاستحواذ على أغلبية البرلمان في انتخابات 2018 من أجل الانتقال من التعطيل إلى التسلط، وساعتها يسهل عليه تشريع سلاحه والعبث بالدستور - أو صياغته - على هواه. إذا كان حزب الله - بسلاحه ودعم إيران - حاصر لبنان وهو أقلية برلمانية، فماذا سيفعل إذا نجحت خططه وشكل الأغلبية مع حلفائه؟!، وللأسف ساعده لبنانيون عبر قانون الانتخاب الغامض والفضفاض، الذي يتيح الفرصة لتصعيد الخاسرين، وشرذمة أصوات الناخبين السياديين، ويشرع اختراق عملاء حزب الله لطوائف السنة والمسيحيين والموحدين الدروز. هناك حاجة إلى تأسيس خطاب مواجهة في موضوع المساس بالطائف يعيد حزب الله ومن والاه من خانة الهجوم إلى خانة الدفاع، وهذا الخطاب يجب أن يستثمر فرصة تاريخية تتمثل في اجتماع الدول الإقليمية والمجتمع الدولي على مواجهة الإسلام السياسي المنتسب زورا إلى السنة ومرادفه المنتسب زورا إلى الشيعة. يطالب ساسة مسيحيون بتعديل تقني على دستور الطائف، وهو إلغاء المادة المتعلقة بالمهل الدستورية، لأنها تضع رئيس الجمهورية في مرتبة أدنى من مرتبة الوزير المختص ومن الحكومة ورئيسها، لكن هناك مطالبة أكثر أهمية يجب أن يرفعها الساسة السنة، لا بد من تعديلات تقنية فورية تعزز النظام البرلماني الذي نص عليه الدستور، وتعيد موقع رئيس الحكومة إلى مقامه المفترض في النظام البرلماني، ويمكن إيجازها بما يلي: منحه صلاحية تعيين موظفي الدرجة الأولى منفردا، بحكم أنهم من أدوات السلطة التنفيذية التي يرأسها. تسليمه ملف السياسة الخارجية بالكامل ومن ذلك التفاوض متفردا على عقد المعاهدات الدولية وإبرامها، بحكم أن الحكومة هي من تنفذ هذه المعاهدات. منحه صلاحية تشكيل الحكومة منفردا، لإيقاف قدرة الأحزاب على الابتزاز والتعطيل، بحكم أن رئيس الحكومة يتحمل مسؤولية أداء حكومته ككل. إن الأداء السياسي لسنة لبنان بعد اتفاق الطائف، يتيح لهم المطالبة بتعزيز موقع رئاسة الحكومة، فلم يتورطوا في تعطيل للدولة أو انتهاك للدستور، وتبنوا مواجهة الإرهاب والميليشيات، ويحسب لهم تضحيتهم بمكاسبهم الخاصة من أجل انتظام الدولة وحماية الدستور والقانون، وكان السنة أكثر من دفع ثمن جرائم الإرهاب والميليشيات في لبنان والمنطقة، وتعزيز موقعهم يعزز منهج الاعتدال الذي يؤمنون به ويطبقونه، ويشجع الآخرين على الاقتداء بهم.