لم تنس وصية الجدة لها في المنام.. - حين تشرق الشمس اتبعي بذرة النور حيث مشرقها، اسلكي طريق السالكين إلى النور وستبلغين المراد في الحب. رفعت رأسها إلى السماء محدثةً نفسها: - لو أنها تمطر؟ قبضت في كفها الصغير بذور نواياها الخضراء الباسقة: - كم سيطول الحلم لو أمطرت مبكرا وجاء في غير موسمه؟ كانت السماء يومها بصفاء سريرتها، وبلون عينيها المشرئب بفتنة الاحلام، كظمت حسرتها، وهي تقلب الاحتمالات وعندما يئست، همهمت: -لا إشارة في الأفق تبشر بالهطول! رفعت قلبها برجاء الى السماء: _أرجوكِ أمطري في هذا الجدب الذي تقف عليه، لا وردة أقامت يوما فيه، ولا غصن وارفا أزهر، ولا شجر تذكر فيه جودها في هذا اليباس، ولا طير غنى فوق أيكه، ولا ناس جاءوا إلى هنا. لم تبصر في هذا المكان غير الجدب، ولم تهتد الى سجل به تغريد طائر، أو لون لوردة مرت من هنا، أو عشب أقام هنا. راعها منظر رجل مسن تخشب على باب كوخه وكأنه يحاكي ذلك اليباس، أصابتها الحسرة فهيئته متداعية: قامته.. عيناه.. فمه.. أطرافه بقي شعره الأبيض مسرحا لهبوب الريح، ندهت به فلم يجب. كانت تحمل نيتها وتطوف بالمكان عل رحم أرض يستقبل بذرتها، في حين كان الكون يقيم في عينيها فقط والمرج الأخضر مدى لأنفاسها والربيع يمتد لأحلامها... عرفها الكون جيدا، فأصغى لانسياب صوتها، ذلك اللحن الطري الذي تفيق له الأرجاء أنغاما وتبحث الأمكنة عن فرصة لتراقص خطوتها في كفها الصغير ترقد بذرة الأمنيات متدثرة بغد تحلم برفرفة بشائره، انثنت مرتدية غلالة خضراء كرداء الحقول التي تمتد في سنوات عمرها البهي، وثمة هاجس يشاغلها: - ازرعي! أزاحت التربة عن وجه الأرض، وفركت البذور بين أناملها باسطة كفها، وأخذت توشوش لتلك البذور عن أمنياتها، وتبثها ما جال في خاطرها ومن ثم نثرتها على الأرض وربتت عليها، لحظات وقدمت وحلقت فوق رأسها سحب ثقال أخذت في التجمع، بينما كانت تحث السماء على الهطول: - لن أبرح مكاني حتى أرى.. ** مطر مطر مطر غزير. ** في صبيحة معشوشبة الخضرة، مشت الطفلة وخطواتها تتمايل كتمايل الريح، وثغرها يثمر عن ابتسامة فلقت ذاكرة اليباس، ورمقت عيناها بستانا لا يقطعه بصر، داهمها الشك أن المكان ليس المكان، ولولا ذاك الكوخ المعلق في بابه رجل مسن لكذبت عينيها، وقفت في موازاته وبادلته تلويحة عن بعد، لوح لها كثيرا متمتما: - يا بركة لم تسمع كلمته التي جرت بين العشب الممتد، فيما كانت مثابرتها البحث عن الموقع الذي بذرت فيه نواياها. في نفس الموقع نبتت أيكة وكأنها متجذرة منذ مئة عام تظلل ورودا ليس للونها مثال... وكلما تقدمت ازدادت رجفتها ارتعادا، وقفت على الورود، لامست تولالتها كانت كل نية مكتوبة بخط واضح تماما... فسجدت طويلا وعندما رفعت رأسها خشيت أن تمسكها نواياها فأسرعت الخطى عائدة فيما كان صوت الرجل المسن يصيح بها: - يا بركة * قاصة سعودية