منذ عشرين عاما كانت غربتي عن روحي أقسى من غربتي عما وعمن حولي، أنأى عن كل مؤتلف وأسعى خلف كل مختلف؛ علني أجد روحي التي فقدت الأمل أن أجدها في أي شائع حولي، وكأنه رباط قدري يربط ما أجمع عليه الآخرون بمسالك اغترابي، حتى وجدتني أعاف بلاهة التلفاز وتقيحات الصحف القومية، في ذلك المناخ كانت تفصلني خطوات قليلة عن ثورة الإنترنت، لم يكن أمامي سوى ملاذات معدودة، منها آفاق.. ملحق جريدة الحياة اللندنية، يطالعني أحد أعداده بقصائد موقعة باسم عبدالقادر الجنابي. سعيت خلف آثاره بكل ما أوتيت من معارف وأصدقاء! وفي بيت أحدهم أخرج أمامي بحرص شديد عددين أو ثلاثة من كواسر، وخمسة أعداد من فراديس، وديوان شيء من هذا القبيل، والسيرة الذاتية تربية عبدالقادر الجنابي. رق الصديق لحالي ولأن أمام شغفي متنازلا لي عن الكتب والمجلات، عدت إلى البيت التهم الكلمات التهاما، أقرأ شعرا ليس كمثله شعر، أعداد فراديس تسبح ضد التيار السائد إبداعيا ونقديا... إبداعيا تخبرك هذا هو شعر العالم برحابته ورقته وعذوبته الجامعة أنسي الحاج وشوقي أبو شقرا وأكتوفيوباث وفرناندو آرابال ونيرفال وكثيرين... نقديا.. لا تظاهر ولا حذلقة بل يد حانية تطوق كتفيك وترتاد معك النظريات والأفكار ببساطة مذهلة، وكلما اتسعت عيناك دهشة وتعجبا، تربت اليد الصديقة على كتفيك، وتلح على تذكيرك ألا تخف، ما دمت ممتلكا لشيء داخلك، فالطريق دوما تبدأ من ذاتك وتنتهي إليها! في ذات الوقت الذي لم تكفِ فيه مجلة إبداع عن تكرار سرمدي مفاده أنه من الأفضل للجميع أن يكفوا عن كتابة الشعر، ويتركوا هذا الأمر الجلل لأسرة التحرير وثلة من المقربين! فالأمر ليس بهذه السهولة أيها الحرافيش، الشعر صفوة الفنون لصفوة الناس، ودور المجلة تنويري، أي ينير الطريق لكل إنسان فيعرف حدوده في الدنيا ومقامه بين الناس! أما الكتب النقدية فقد أصابتها آفة الجفاف الأكاديمي والغموض المفتعل الناجم عن انعدام الرؤية لا عمقها، ناهيك عن الاستخدام المعيب للنظريات والمصطلحات، حين تُفاجأ بكل هذا الهراء دفعة واحدة، ليس في كتاب واحد بل في الأغلب الأعم من كتب النقد الأدبي، فلا تملك سوى إدانة ذاتك بالعجز وعقلك بالقصور عن فهم هذا الكلام الذي يبدو عميقا ومهما.. حتى انقلب البؤس على البائس! حين قررت سلطة ثقافية في مصر دعوة الفيلسوف جاك دريدا، في جميع الندوات واللقاءات التي أقيمت، كان تعليقه واحدا: يا إلهي! أنا قلت هذا الكلام؟ هذا ليس كلامي! أما في تربية عبدالقادر الجنابي، طوال صفحات تمنيت لو أعثر في الواقع على عراقه.. عراق الأربعينات والخمسينات بزخمها وأفكارها ورحابة عالمها القادر على استيعاب الجميع.. هكذا هي الحال.. صفحات تشعل داخلك الرغبة والتمني، صفحات تضربك بصواعق الضحك، وصفحات تغمر كيانك بالبكاء. من أروع صفحات السيرة ما كتبه الجنابي عن أمه، لا أثر للمشاعر والأحكام المباشرة، ما من صفات، فقط سلسلة من المواقف الحياتية وسلوك الأم معبر عنه بكلمات قليلة منضبطة انفعاليا حتى الصرامة، بيد أن وقعها في نفس القارئ يضعه أمام سؤال مُلِّح هل هناك - حقا - شخصية كتلك؟! استفهام يضرب في أرض الانبهار الذي لا يدوم طويلا أمام فورة من الشعور بالحزن لأنك لن تقابل تلك السيدة رحمة الله عليها. المفارقة أن ثراء السيرة لا يقتصر على الكلمات والموضوعات، بل امتد لصورة الغلاف.. الجنابي في مكان عام.. ربما مقهى أو ملهى، يغوص في مقعده، بشعر غزير ولحية كثيفة، سيجارة في يده اليمنى، التحفظ الفوتوغرافي للأبيض والأسود يوحي أن الصورة في أحد مقاهي لندن لا باريس (أو هكذا شعرتُ) يغوص الجنابي في مقعده موليا ظهره لامرأة تتخذ وضعا جانبيا، لا يظهر من جانب وجهها سوى الأنف والفم، والباقي يحجبه شعر ناعم غزير، هكذا يتصدر الجنابي الصورة، خلفه المرأة، وخلفها مصباح حائط غريب، فعلى واقي المصباح ثمة علامة تجارية تشبه علامة ليبتون! وأسفل الواقي ترى انسيابية قارورة خمر! تتولد الدهشة من كون هذا التشكيل الانسيابي أقرب لأن يكون جزءا من المصباح لا قارورة خمر موضوعة بالقرب منه.. هكذا يلوح الأمر للرائي.. سوريالية طبيعية تعيدنا إلى المرأة.. من هي؟ وإلامَ انتهى مصيرها؟ وماذا تمثل للجنابي؟ ربما لا شيء.. مجرد شخص ظهر في صورة اُلْتُقِطَتْ في مكان عام، وربما هي نادجا(ه) وعلى خلاف صديقه بروتون تخلى الجنابي عن جعلها هدفا لبحث سرمدي؛ فأعطاها ظهره موليا وجهه -بناء على نصيحة أنسي الحاج- نحو ماضي الأيام الآتية! في بداية الألفية، دخلتُ العالم الافتراضي؛ فازداد عالمي انفتاحا.. جهة الشعر، الإمبراطور.. ومطالعة (الحياة) بعد منتصف الليل دون الحاجة لانتظار وصولها لباعة الصحف بعد العصر، حتى أخبرني ذات الصديق أن الجنابي يكتب باستمرار في إيلاف؛ فصار باب ثقافات بالصحيفة بيتي على الشبكة، أغادره لأعود إليه، أرى الجنابي حاضرا بكلماته وفكره وإبداعه، وإن ظل التواصل معه حلما بعيدا... من الأفكار الجميلة التي ابتذلها التكرار، أنك إذا أردت شيئا بقوة، وخصصت عقلك ومشاعرك للتفكير فيه، والإيغال في تمنيه؛ فتأكد أن العالم سيتآمر لتحقيق ما تتمناه. ترى أي قوة جعلت الجنابي يحدس بمجهول يتتبعه ولا يجد إليه سبيلا؟ من أبلغه أن هناك من يجمع قصاصات الصحف الحاوية كلماته، ويطبع كل ما ينشره على إيلاف: شعرا وترجمة؟ من أخبره حتى يخرج على عادته في الانعزال والتنحي المطلق؟ ويرتكب ما بدا غلطة قدرية! فأحد ملفاته على إيلاف ذيله بعنوان بريده الإلكتروني الشخصي! وأظنه انتبه للأمر، إذ حذفه لاحقا، لكن الوقت قد فات وطبعتُ الملف سلفا! هكذا رحت أكتب له بصورة شبه يومية على امتداد سنوات. حين لا يرد عليك الجنابي أو يتأخر في الرد صدقني ليس في الأمر أي إساءة، كل ما في الأمر أنه مشغول على الدوام، وفي النهاية لن يرد عليك إلا إذا تأكد من أمور بسيطة مثل مدى شغفك، وصدق هذا الشغف من زيفه. فإذا تجاوزت هذه العتبة، أعدُك أن تسير الأمور بصورة طيبة شريطة أن تحل أنت مشاكلك مع خلطة الحدة والإسراف والنقاء الناسجة هالة القديسين حول شخصه والمتسقة تماما مع اختياراته.. الجنابي الذي لم يمد يدا لأحد، بل كانت يده هي الممدودة دوما بالعطاء ماديا ومعنويا، حين أبصر بؤس أوساطنا الأدبية في الوطن العربي السعيد، صحح الأخطاء بترجماته ومقالاته ونصوصه الإبداعية، لم يتاجر بقضية، ولم يسعَ لكسب ود أحدٍ، فكل ما يتمناه أن يتركه العالم لعزلته، شاعر لم يُقِمْ مشروعه على استغلال قضية وطنية أو ابتزاز لوضع إنساني - كما فعل ويفعل الكثيرون - بل فقط على الشعر والإبداع. على الدوام تبقى هذه المسافة بين إبداعه وبين ذائقة المتلقين، لا تزعجه بقدر ما تكشف بؤس قارئ ربما سيعيش بقية عمره دون أن يدرك أنه يطالع نصا له خصوصيته وفردانيته و له ما له من ريادة.. عبدالقادر الجنابي الذي ما إن يرد اسمهُ حتى يقع في ضميري موقع المعلم الذي نقف له إجلالا واحتراما، ويقع في ضميري أيضا أعداد من تعلموا منه وشملهم بمحبته ورعايته... هل فاتني الإعلان بأنني -وبكل امتنان- أحدُهُم.. * شاعر مصري