لدي ظمأ حقيقي لقراءة جيل طليعي ، شاب، ليس بالضرورة عبر شهادة الميلاد، ولكن بدرجة الشغف بكتابة غير زائفة. للعام الثاني على التوالي اتعرف على نماذج من هذا الجيل وأنا عضوة في لجنة تحكيم لمؤسسة المورد الثقافي / جمهورية مصر العربية ذات الحراك والحيوية الثقافية ، التي تشتغل بهدوء وقوة وبلا زعيق، وبعد تحضير وتنسيق لكي نحاول جميعا العثور ، أو اقتناص شبان يتمتعون بصحة إبداعية في أبواب الأدب والمسرح ، الموسيقى والرسم الخ بعضهم كانت طاقاته تنفجر بين يدي وتشي بكتابة حاولتْ الاشتغال لحسابها الخاص، وبعيدا عن مؤشرات الانتشار السريع والاختفاء الأسرع. نصوص تقاتل بصبر جميل لكي لا تقع تحت قبضة شللية رؤساء الصفحات الثقافية، أو ادارات دور النشر في الاستغلال والاقصاء . التقطت هذه المؤسسة الناهضة الشابة، وقليلة الموارد قياسا بغيرها، مواهب شبه ضالة، ومنذ تأسيسها منذ سنوات قليلة اشتغلت كرافعة حقيقية لجيل قدم من فلسطين ولبنان ، سورية والمغرب العربي، ليبيا ومصر ، وللعامين يغيب العراق. نصوص وروايات ، مسرحيات ومشاريع موسيقية ومسرحية لشبان القسم الأكبر منهم مغمور ، والبعض نشر ديوانا او رواية على حسابه الخاص . كنت اريد تبنيهم جميعا ، ليس بسبب التزام اخلاقي فحسب ، وأنما من اجل دينامية الإبداع العربي بالذات. 2 ادرك بصورة بها بعض الالتباس، ان كلمة المزاج قد لا تتفق مع المعايير النقدية ، والذائقة الصارمة. لكني وفي أثناء القراءة يضع النص أمامي قواعده الجديدة، أو بمعنى أدق يصنع ذلك ، وهذا كلام بديهي جدا لكننا ننساه في أغلب الأحيان . هنا نبتكر نحن كقراء أيضا أفكارا تلائم ما نقرأ، ونتابع ذلك الطيران بين المفردات ، وعملية السرد . اجناس مهمة من الكتابة الحرة ،الطليقة . في هذا العام كانت أمامنا كمحكّمين ؛ في كسر السائد والمألوف ، تنوع ثقافي يمنحك تيارا صافيا فتشعر أن هؤلاء الشبان ، أنت مدين لهم حين تتحقق تلك القوة الانفجارية من بعض الروايات والمسرحيات فتسلمنا إلى حياة ثانية . بعض ما وصلني هذا العام كانت الجدية اداة حقيقية في تحمل عهدة ومسؤولية الحرية، وتأصيلها في كتابة تخترقها مفاهيم التنوير والنهوض ، التعدد والاختلاف، والتفاوض علانية مع قضايا كلها تبدو كبيرة ما دمنا نتساءل حولها بكل هذه الحرقة والشراسة . أحدهم شاب مسرحي منحته شخصيا الدرجة التامة، ولو كان بمقدور الأرقام أن توفر مؤشرا آخر لمنحته اياه أيضا. اليوم وبعد مرور الشهور الخمسة على إعلان النتائج ، وحين وصلتني عن طريق النت سررت فوق الوصف لأن درجتي ولوحدي دون المحكمين الزميلين ، كانت هي الحاسمة في وصوله للفوز ، وان باقي الدرجات وله بالذات كانت الأدنى بكثير من درجتي ، وأن ثلاثة من خمسة من الذين اخترتهم قد فازوا. 3 علي ان اقول ، انني انتمي لهذا الجيل ، وبسبب فارق السن الكبير فيما بيننا أكثر مما أنتمي لجيلي أو قبله ، أو .. أشعر أن لدى هؤلاء درجة شاهقة من الانتباهات قدمها كاتب / كاتبة جديدة ، بدت لي أكثر إثارة وتأويلا وفرادة . أظن اننا كمحكمين / وقراء ، كنا نسمع رنات وايقاعات بآذان مغايرة ، بالسرعة أو الإبطاء، هذا ، ربما ادعوه بمزاجية القراءة التي تدعوني لقراءة بعض الاموات ، كما أتبع خط سير قراءات بعض لأحياء من شبان يصيبون الهدف . هي قراءة جسورة كانت لدى كل واحد منا في هذه الدورة للقبض على نص يحاول الإيقاع بنا ، ولقد وقعت بحب نص فلانة وفلان ، وقمت بالترويج له بالمتاح لي ، منحه الدرجة التامة في تميزه عن الآخرين . إن الذين غادروا من بين أيدي المحكم ، لم تكن درجاتنا موجهة ضدهم . أحدهم ظل يحاول التقديم وللعام الرابع ، مع نصوصه المنشورة في بعض المجلات الثقافية الخليجية ، لكنه لم ينل أية درجة حاسمة . لقد اكتسب النص الجميل انفصاله التام ، وعثر على روحه خارجا عنا جميعا، لكن لصيقا بنا جدا . حسنا ، اليوم، أنا التي أذوذ وادافع عن هؤلاء المختارين. 4 أظن ليس من محّكم في مؤسسة المورد الثقافي ، أو في جوائز العرب العاربة أو العالم من حولنا معصوم من المزاجية ، ففي كثير من الأحيان تلغى المعايير النقدية الصارمة لصالح كتاب صادم لجميع تلك المعايير ويبقى المزاج سيد التحكيم . اليوم لو رشحت رواية الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري لإحدى الجوائز العربية التي تتكاثر كالفطر ، ربما لطردت خارج جنان الترشيحات والجوائز ، وكل ذاك الشطط والحزازات التي تصاحب هذه الجائزة أو تلك . ستبقى كتابة الخبز الحافي ذات فجاجة فظة وعنيفة ، وركاكة وهشاشة تتمرد على بلاغة طبقية وسياسية وأدبية سائدة ، وهي ذاتها كانت صادمة ومربكة لذائقة ومزاج الناقد والقارىء معا . ربما ، لهذه المعايير هو كتاب يمتلك فرادته . في العام 2004 صدرت لي ترجمة لرواية الولع عن دار النشر السويسرية لينوس . وبعد حضوري لمعرض الكتاب في فرانكفورت ، عملت لي دار النشر رحلة لسبع مدن في المانيا وسويسرا . كنت برفقة المترجم والباحث والاكاديمي الالماني هارموت فيندريش الذي سبق وقدمني للقارىء الالماني في ترجمة النفتالين حين فازت بالترجمة للغات عالمية عدة من خلال مؤسسة ذاكرة المتوسط وكان مقرها أمستردام ، فرطت اليوم هذه المؤسسة مع الأسف بعد ان قامت بترجمة عينات من روايات جبرا ابراهيم جبرا ، ورشيد الضعيف وعبدالقادر الجنابي تحت يافطة ما يسمى بأدب السيرة الذاتية . ولنجاح هذه المؤسسة والتراجم ، وفي وقتها تحولت كتب بعضنا إلى كتاب الجيب. 5 في رحلة القطارات نكتشف ذواتنا والآخرين ، ومن الجائز نخسر خلسة القليل أو الكثير من الخصوصية ، أو نربح بعض الكائنات الجميلة . كانت أوقاتا لا تتكرر في العمق والاريحية والاكتشاف ، ما بين ثقافتين ولغتين ومزاجين وعالمين مغايرين جدا . وفي الأسفار تتحدد مستلزمات المزاج والتهذيب الجم أيضا . في أثناء المحادثات الشائقة والطويلة فيما بيننا حول شؤون الترجمة ، واساليب السرديات ، والكتابة العربية الحديثة ، واهمية القارىء الأوروبي الألماني الأصعب من بين قراء أوروبا قاطبة ! كانت جميع أسماء من تستهويني كتاباته من الكاتبات والكتاب العرب على طرف لساني ، وأنا أعدد هذا الاسم أو تلك ، فيهز رأسه ما يعني بالمزاج المضاد ، هو بالضبط اللامحبة المزاجية ، ثم أردف قائلا : آه ، ينبغي تمرير الذين فازوا بالترجمة عبر مؤسسة ذاكرة المتوسط ولولاها لما قدمتْ روايتك ، النفتالين مثلا ، فأنا أبحث عن كتب وكتابات غير هذه أو تلك التي ترجمت .. أو . استهوتني المحادثة جدا ، واثارت اعجابي، وإلى اليوم فقد اصبحنا صديقين . وحين وصلنا مدينة برن ، محطتي الأخيرة ، وأنا أودعه، ظل يحرق لساني سؤال ، وكان علي سؤاله مهما كلف الأمر : ترى من يوجه مزاجك لاختيار الكتب للترجمة من العربية للالمانية ؟ ومن هو الكاتب أو الكاتبة التي تستهويك ترجمتها وقراءتها .. الخ ؟ ابتسم وزوجته بجواره ونحن نتصافح ، ثم اطلق ضحكة جد لطيفة وازداد البريق في عينيه الملونتين : لدي مزاجان ، الأول يخص أمي فهو الذي يحدد لي الرواية والعالم والأفكار التي على ترجمتها من هذه الثقافة أو تلك . هي التي اشارت علي مثلا بترجمة جميع روايات اللبنانية اميلي نصرالله بعد ان قرأت روايتها الجميلة طيور ايلول وقعت في غرام العالم الريفي والاشخاص البسطاء. وأنت ؟ من يشبع مزاجي المعرفي والفلسفي وبدرجة لا نظير لها ، ولذلك ترجمت عموم ما أنتج هو إبراهيم الكوني. *** ليس من حق أي واحد توجيه اللوم والتجريح لأي محكم فيما اذا استهوى هذا العمل وعافت روحه الآخر ، وليس علينا أن نقدم حججا وذرائع لما نحب قراءته أو لا . افكر بنا جميعا ككتاب وكاتبات ، فأعمالنا ليست متساوية في الجودة الفنية والاتقان حتى في العمل الواحد فهناك ، ربما ، فصول مشرقة وعميقة أفضل من فصول اخرى، وهو أمر ينبغي الموافقة على تسليم المخطوطة وقبل نشرها للمحرر الذي يجب ان يكون حاضرا في كل دار نشر عربية تقدر سمعتها وعراقتها ، يقوم بالمعاينة والحذف ، الضبط والتغيير الخ نحن عموما نغلط ، وهناك اخطاء شنيعة لغويا واملائيا ونحويا الخ . وحسب علمي البسيط وبعدما تنقلت بين داري نشر عريقتين ومحترمتين كالآداب والساقي ، فهذه الأخيرة ودار الجديد يتوفران على هذا المحرر الذي يشكل وجوده ظاهرة ثقافية شديدة الرقي والحيوية حتى لو كلفت الدار غاليا فهو يثري العملية الإبداعية ، وبالتالي على الدار ان تكون صارمة وحازمة ، وغير خاضعة لمزاج بعض المؤلفين المتورمي الذات بصورة لا شفاء منها ، فيتصور بعضهم وفي كثير من الأحيان ان بعض سطوره وفصول من اعماله تمتلك من التقديس ما لا يجوز المس بها.