لو كل منا فكر لوهلة في سيرة المبنى الذي يقطنه، فما الذي سيجد فيها من أخبار وأحداث؟ ماذا لو وظف أساتذة التاريخ والجغرافيا والهندسة المعمارية كتابة سيرة المباني والمدن في صفوفهم؟ كم سيرة ودروس ستُكتب بأبعاد معرفية متأملة للإنسان وعلاقته بتاريخ الأمكنة؟ لم أعلم أن لسيرة مبنى مجهول متاهة تجوب بيّ داخل سياقات ثقافية وسياسية تشبه تصميمه المعماري الظاهر وما مر عليه من تقييم وترميم. إنه السارد باختلافه يمنح السرد لمن شاء أن يقتفيه. واجهة المبنى المنحنية بمدخل مزخرف تحتفظ بذكرى مسرات خاطفة وخاصة أن المبنى عاصر حقبة تاريخية أخرجت ساكنيه من كدر، واكتشفوا نهجاً للتخلص من أطر ثقافية وسياسية مثقلة بمفاهيمها عن المرأة، التقنية، الأقليات، والعبودية. الملفت أنها حقبة اكتشفتْ أنواعاً جديدة من الترفيه (السينما، الموسيقى، المسرح، الاستعراض، النوادي، وغيرها). وكما أشرتُ، نيويورك العشرينات غنية بالتحولات التاريخية والثقافية، حتى أن نهضة هارلم تُعتبر تجربة حداثية اشترك فيها الكثير من الأدباء والموسيقيين والرسامين. وهكذا تنتقي الروائية الأفريقية الأمريكية، توني مورسون عنوان روايتها (جاز) بإيماءة واعية لربطها بنهضة ثقافية حَكمَ عليها البعض بالفشل، وهمشها آخر؛ فكان نصها إعادة ذاك التاريخ لأصحابه ممن أسكتهم عنف ولم يبق إلا صورة في صحيفة يومية تنقل خبر رحيلهم بلا تأبين؛ وقد ذكرتْ الكاتبة في إحدى المقابلات صورة الفتاة القتيلة التي رأتها ملقاة بين أخبار صحيفة عبرت أذهان الكثيرين بلا اكتراث ولكن مورسون استوحت منها شخصية روائية رئيسية، دوركاس الشابة التي جعلت خالتها تلوم الموسيقى التي قادتها لحتفها. لو أطلقتُ العنان لإلقاء الضوء على موسيقى الجاز ونقدها لطال الحديث ولكن سأكتفي ببعض التقاطعات المهمة والتي قدمتها قراءة نظرية متميزة تناولت شخصية حظيتْ بالاهتمام واللامبالاة معاً مع ما صاحبها من الأطر النمطية وتاريخ التشئ الجَليّ: جوزفين بيكر التي اعتُبرتْ رمزاً لعصر الجاز، ولم تمكث طويلاً في نيويورك على الرغم أنها حققت نجاحاً في بداياتها؛ وغادرت إلى باريس لتصبح أيقونة العشرينات الصاخبة على مسارح باريس الشهيرة. ليست وحدها التي غادرت بل فوج من الكتاب والفنانين هرباً من العنصرية والعنف المتأجج في المدن الأمريكية وقد قمت بتدريس مادة «الرواية الأفريقية الأمريكية في باريس،» وسأتحدث عن هذا الموضوع لاحقاً. كتاب آن شانج أستاذة الأدب المقارن والأدب الإنجليزي في جامعة برينستون يقدم طرحا نظرياَ فريداً من خلال تحليل ظاهرة جوزفين بيكر وقد دَرّستُه في جامعة كولمبيا؛ احترتْ في نقل العنوان (Second Skin: Josephine Baker & the Modern Surface) إلى العربية ما بين ترجمة حرفية: (الجلد الثاني: جوزفين بيكر والسطح الخارجي)، أو (البشرة الأخرى: جوزفين بيكر والمظهر الخارجي) لكن الخيار الأول ربما أقرب لطرح شانج التحليلي لمفهوم السطح، الجلد، المرئي، والظاهر وما يعنيه كبنية خطابية في مشروع الحداثة؛ أما الثاني فيطرح إيحاءات عن الجسد وتطويعه الذي شكلته سياسة التمثيلات منذ بدايات القرن العشرين بالإضافة إلى الهوس بالبشرة النقية في محاولة للتنكر لما تكشفه من أثر عرقي والابتعاد عما يُرى فوقها، ولذلك يأتي التشبه باللون الأبيض وسماته من خلال التورط في «رواسب الدلالة» كما وصفتها الناقدة. من الأسئلة الجديدة التي تطرحها في بداية كتابها: «لماذا يجب على المهندسين المعماريين الحداثيين الذين يمقتون الزخرفة، والوشم، والعلامات المثيرة الأخرى أن يختاروا التفكير بأسطح مبانيهم وكأنها «جلد»؟ لماذا تحمل أول بدلات السباحة الحديثة تشابهاً مرئياً مع زي السجن في القرن ال19؟ هل افتتان القرن العشرين بالشفافية هو من أجل متعة الرؤية في داخل أو من خلال الأشياء؟» وتلفت الانتباه إلى أن كتابها يقودنا للتفكير في «أسرار المرئي الغامضة وكيف أنها تتواجد على الأسطح التي نعتقد أننا نعرفها جيداً.» بل تضيف أن أسئلتها هذه هي جزء مما تسميه «حلم الحداثة بالجلد الثاني،» وذلك من خلال تحليلها للمرأة التي أثارت الدهشة والجدل، جوزفين بيكر في أوائل القرن العشرين. تذكرنا الكاتبة بعودة الاهتمام النقدي والثقافي بجوزفين بيكر مع الذكرى المئوية لولادتها في 2006 حيث عُقدَ في جامعة كولومبيا وكلية برنارد مؤتمراً أكاديمياً في نفس السنة، ومعرضاً متنقلاً. كما صدر طابع بريدي في 2008 يحمل صورتها كاعتراف بأهميتها وإن جاء ذلك متأخراً؛ وحتى الآن لبيكر ثلاث مذكرات وحظيت بأكثر من عشرين سيرة بالإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى كم هائل من الصور كما تخبرنا شانج، مؤكدة على أنه «يمكن القول إن بيكر كانت واحدة من أكثر الفنانين ذكراً في القرن العشرين.» كتاب شانج يسعى لفهم سياقات النقاش المتداول حول بيكر، الأيقونة كظاهرة تكشف الحداثة والأزمات المتشابكة مع العرق والذات. والناقدة تنفي أنها تطرح فقط حجة مفادها نقاش حداثة الفنانة الأفريقية الأمريكية كوسيلة لدحض التهم التي طالما استقرت على صورة الجسد المختلف، وإنما هي تتبع التشابك المثير ما بين الحداثة والبدائية بل التماهي بينهما وخاصة أن النقاد كانوا ينظرون لبيكر كصورة تعيد الرائي إلى بدائية ممسرحة، وتكشف لنا أن «الحداثة والبدائية متشابكتان، بل في بعض الأحيان متطابقتان.» فهل رأى الجمهور المكتظ أمام عروض بيكر على مسارح باريس «شيئاً مختلفاَ أم كانوا يرون بشكل مختلف؟» وهذا الطرح يشير إلى أن الاختلاف يجعلنا نرى مهما تسربلنا في مقاومته وذلك لأن المختلف لا يشبهنا ولا يمنحنا لحظة التماهي معه. وبالفعل هذا ما وقع فيه بعض نقاد جوزفين بيكر، فهي تكشفُ هذا السر وأسطورة الغموض المتجسد على السطح، البشرة، الجلد وكل ما هو ظاهر للعيان. وتتساءل الكاتبة: «كيف يمكن تغيير فهمنا للتوقعات السياسية المحيطة بالجسد الأنثوي عندما نعتبر أن بيكر نقطة ارتكاز ديناميكية تم من خلالها تَشكُل فكرة» الأسلوب الحداثي؟ أيضاً طرح آن شانج المبدع يضيء ما مر به الجسد البشري من تحولات في مختلف المجالات التي «عجلت بها الثورة الصناعية وتكثفت في عصر التكاثر الميكانيكي. إن التقدم الطبي والابتكارات التكنولوجية البصرية مثل الأفلام والتصوير الفوتوغرافي، والخطابات الفلسفية الصناعية» كلها «تتلاقى لتشكيل تخيل هيئة حديثة ومتجددة ومنضبطة.» أيضاً توظف الكاتبة التحليل النفسي في نقاشها وخاصة ما أحدثه اكتشاف فرويد «للواقع النفسي» ودور الحياة الخيالية التي ضاعفت تخوم الجسد وكثفت تقييده في ذات الوقت. نشوء هذه الحدود المادية والميتافيزيقية لجسد الإنسان وما يشكلها هو أحد ما تدور حوله أهم النقاشات الفلسفية في القرن العشرين. هنا يتمركز هوس الحداثة الذي تفككه الناقدة بتسميته «حلم الجلد الثاني بإعادة صياغة الذات في جلد الآخر - هو الخيال المتبادل والمشترك بين كل من الحداثيين الذين يسعون إلى أن يكونوا خارج جلدهم والآخر العرقي الذي يتطلع للهرب من أعباء ما تحمله البشرة.» إذاً آن شانج تقدم نقداً مزدوجاً للخطاب الحداثي، وتمثيلات من وُشمَ بالبدائية لمواجهة ما يُرى فوق السطح الظاهر. ومثل الناقدة استحضرُ وصف فيرجينيا وولف للحياة بأنها «مظروف شبه شفاف.» أمشي بجوار المبنى على شارع البرودواي وأتخيل تلك الحقبة التاريخية وتحولاتها المدهشة؛ يعبر الآخر بينما الأنا بجواره أو هي خلفه، وهكذا سيرة المبنى تكاد لا تنتهي لما يحيط بها من أطياف. * أكاديمية سعودية درّست في جامعتي كولومبيا وهارفارد