كنت من المعارضين لقيادة السيارة ومن أشدهن في هذا الأمر، وما ذلك إلا لخوفي من فكر الليبراليين ومخططاتهم، ومن تخويف البعض لي بالفساد والانحلال الذي يتوهم حصوله، ومع الزمن اكتشفت أنها قضية للتشغيب والإثارة من تيارين في البلد. وقد قلت في إحدى مشاركاتي في وسم قيادة أكتوبر قبل سنوات، إنني لن أعترض على قرار قيادة السيارة إن صدر من الدولة، لثقتي فيها ولإيماني بمنهج أهل السنة والذي يمنعنا من شحن الناس على ولاة الأمر، ويمنعنا من الانتقاد علناً. لسنا متناقضين أبداً، لكننا مع القادة والعلماء في هذا البلد، ولا نرد الكلام بعدهم، كما أننا نسعى لتحصين دولتنا ضد كل من أراد فيها الشغب والإثارة والتحدي، ثم إن هذا الأمر بالنسبة لي يعد أمراً صغيراً، وما ضخمه سوى ثلة أرادت إحراج دولتنا في كل مكان. لقد كان من أسباب رفضنا لقيادة المرأة للسيارة سابقاً ما يلي: 1- لأن قيادتنا رأت المنع (في ذلك الوقت) وهي أدرى بما يقر وما لا يقر ونحن نثق في حكمتها وسداد رأيها. 2- لأن العلماء رأوا (في ذلك الوقت) بأن مفسدة القيادة أكثر من نفعها فحمونا بفتاواهم من تبعات مفاسدها. 3- الظروف البيئية والاجتماعية غير المواتية (في ذلك الوقت)، ونطمع في تحسنها السريع عقب القرار. 4- أن بعض من تولى هذا الأمر ورفع المطالبة به مجموعة أرادت بفعلها تأليب الرأي العام وشحن الشباب والمجتمع وخرجت في التسعينات في تجمعات وجاءت معها CNN لتصور الحدث لإثارة المجتمع، وهذا السبب هو الأهم والأخطر بالنسبة لي، وقد ظلوا كل هذه السنوات يتحركون، بعضهم كان يتحرك بناء على تعليمات منظمات أجنبية في تحد سافر للدولة وقراراتها ولوزارة الداخلية وأوامرها، فكانوا يبرزون في كل عام مرة أو مرتين وخاصة في وقت الأزمات. لقد ظلت هذه الفئة تتحدى وتستقوي بالغرب الذي هو الآخر أثار شكوكنا، فلقد احتلت هذه القضية مكانة كبيرة لدى الأجانب مما يجعلنا نرتاب في جدوى الفعل وبراءته. لقد أحسسنا بعدائهم لنا حينما كانوا يثيرون قضية القيادة ويستفزون الناس في أوقات الأزمات؛ وقت أزمة الخليج واجتياح الكويت أو في اشتداد مرض الملك فهد رحمه الله، أو في وقت التفجيرات والتعزيزات الأمنية؛ فرأيناهم ينشطون للفت في عضد الدولة وإشغالها بقضية داخلية، وكل هذا كان يدفع المجتمع دوماً للمدافعة والممانعة خوفاً مما يرمي إليه هؤلاء وغاياتهم التي ربما يدبرونها مع أعدائنا، فكانوا يوصمون المجتمع برفضه التغيير ويستشهدون دوماً برفض تعليم المرأة (رغم أن هذا الأمر تعرض للتزوير فبعض العلماء لم يرفض تعليم المرأة، لقد رفضوا النموذج الذي خافوا أن يكون عليه تعليمها فطمأنتهم القيادة فوافقوا). إن قضية السيارة نالت من الزخم الإعلامي ما لا يتصوره عقل، ولم تكن مجرد سيارة، لقد تضخمت بسببهم هم وتأجل القرار بسبب تحديهم واستفزازهم، وصدقوني لو أن هذا الأمر نوقش بشكل هادئ من فئات نعرف عنها أمانتها وإخلاصها وحبها لنا وخوفها على المجتمع، وليس لها علاقة بالغرب والإعلام الغربي والمنظمات الغربية ولم تستقوِ بهم، لربما تغيرت المعادلة كثيراً وربما أقر هذا الأمر منذ سنوات وسنوات، لكنهم وبرعونتهم وسخافاتهم من عطل هذا القرار في كل سنة. ربما يكون لبعضهم رغبة في جعل هذه القضية قضية ساخنة على الدوام، وورقة رابحة يستثيرون بها المجتمع ويتحدون بها الدولة ربما، والمضحك أنهم الآن ينسبون الفضل لكفاحهم المشؤوم، وما يدرون أن القرار كان سيادياً، وأن دولتنا لا تستجيب للتحدي والاستفزاز، وأن المجتمع قد نضج بما يكفي لاستقبال هذا الأمر الذي كان سيحدث من غير مظاهرات وتحديات ومقالات ومقابلات ومطالبات، فبعض القرارات أُقرت في وقتها المناسب من غير أن تتحدث فيها وسائل الإعلام بحرف. ومما أعجبني في القرار ما يلي: 1- أن الدولة حكيمة اتخذت القرار بعد استشارة كبار العلماء، واتخذته في الوقت المناسب لها؛ بعد نجاح موسم الحج وبعد سفر المخالفين لنظام الإقامة. 2- لأن الليبراليين ليس لهم تحرك أو تجمع لفرض هذا الأمر؛ وهذا هو أفضل ما حدث حتى لا يقال بأننا رضخنا لهم وخضعنا مرغمين لمطالبهم وذلك لقوتهم ونفوذهم، بل لقد خسروا معركتهم التي أراد بعضهم من ورائها أهدافاً أخرى بعيدة كل البعد عن السيارة. 3- إغلاق هذا الملف المزعج الذي مللنا منه ومن تكراره كل عام، والالتفات لقضايا أهم. 4- للرد على من يصمنا بالتخلف والتشدد من الدول الأخرى، فهم لا يرون مظاهر التكريم؛ فلقد جعلهم الإعلام لا يركزون إلا على هذه النقطة، فأينما رحلت فلابد أن يسألك سائق سيارة الأجرة (حرمة في السعودية ما فيه سوق سيارة؟ ممنوع من الحكومة، ليش؟ السواقة ما فيه شيء، والله حرمة سعودي مسكين!) 5- وأكثر ما أسعدني هو أن القرار جاء بعد موافقة هيئة كبار العلماء والتي لا تأخذها في الحق لومة لائم، ولاشك أنها قدرت المصالح والمفاسد فتغير الحكم اليوم عن الأمس بتغير الحال والزمان... ولا تثريب عليهم فالمسألة اجتهادية والأصل فيها الإباحة، ولئن كان تحريمهم لها سابقاً من باب (سد الذرائع) فإنها اليوم من باب (ما حرم سداً للذريعة يباح عند الحاجة) ورجوح المصلحة على المفسدة. ثم إني أشك في كثرة النساء اللواتي سيقدن، ففي كل بلد من العالم لا تكاد تجد المرأة التي تقود سيارتها رغم السماح بذلك، ولاشك أن هذا سيحدث عندنا ربما بعد سنة من القرار، وأعتقد أنها ستستغني عن السيارة بالقطار أو بشركات التوصيل المريحة، فالقيادة تحتاج إلى تركيز وضغط عصبي لا قبل لها به، فسرعان ما ستمل وتترك سيارتها في مرآب البيت شهوراً طويلة ولن تستخدم سيارتها إلا عند الضرورة وهذا مطلب، ويذهب الإبهار ولن نجد إلا من هي بحاجة بحق. إن كل قرار قوبل بجدل ومعارك فكرية انتهى بمجرد إقرار القرار، وصدقوني فإن ما تتوهمون من ضياع للفضيلة ومن فساد ستكتشفون مع الزمن أنه في أذهانكم فقط، والواقع ربما يفاجئكم بأن ليس ثمة ما تخافون منه أصلاً، خاصة مع وجود الضوابط والقوانين الصارمة، بل إنكم سترتاحون من عبء استقدام السائق وأجرته وكلفته، ومن المحرم وتوفره، وربما يأتي عليكم يوم تدعون لصاحب القرار. وقفنا الله لما فيه خير لبلادنا واستقرارها ونمائها وحمانا الله من كل شر وفتنة يريدها أعداؤنا.