تزامناً مع تحذير متحدث وزارة العمل والتنمية الاجتماعية خالد أبا الخيل قبل أيام معدودة عبر حسابه في «تويتر» بأن الوزارة لا تسمح لأي منشأة باستخدام أي مادة ذريعة لفصل السعوديين، اتصل بي صديق وهو أحد المديرين التنفيذيين بإحدى كبرى شركات الأسمنت، يشكو من فصله تعسفياً مع قرابة العشرين من زملائه السعوديين الذين يشكلون أكثر من 10 بالمائة من إجمالي السعوديين في المنشأة التي يعمل بها، وهو يحمل شهادة بكالوريوس في الهندسة الكيميائية بامتياز، ولديه خبرة عملية 18 عاماً في قطاع شركات الأسمنت، والشركة التي يعمل بها منذ قرابة عقد من الزمان تحقق نمواً إيجابياً، وحققت أرباحاً بعشرات الملايين، وعلى حد قوله، كان سبب فصله تحديداً بسبب ارتفاع الراتب، في حين جاء هذا الفصل الجماعي تحت ذريعة المادة 77 من نظام العمل، التي لا يزال الجدل حولها قائماً وتداعياتها السلبية في تصاعد. وسبق وأن طرح عشرات الكتاب مئات المقالات في ذات الشأن، وتمت مناقشة هذه المادة تحت قبة الشورى، وأكدت غالبية الطروحات الإعلامية والاستشارية أن المادة 77 طبقت بشكل سلبي ويجب إعادة النظر فيها بما يستوفي الهدف المعلن منها وهو تنظيم العلاقة بين الموظف وصاحب العمل وحفظ حقوق الطرفين وتوفير الأمان الوظيفي بما يحفز على الإنتاجية والإبداع في العمل، كما أن هذه المادة كان المفترض أنها سوف تساهم إيجاباً في التخلص من البطالة المقنعة والموظفين غير المنتجين الذين يتسببون في إثقال تكلفة التشغيل دون جدوى اقتصادية، وبالتالي ينعكس إبعاد المتقاعسين على تطوير الإنتاجية والتنافس في بيئة العمل، وبما يخدم رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى توسعة نطاق الشراكة الفاعلة والبناءة مع القطاع الخاص في تحقيق التنمية المستدامة، إلا أن أياً من هذا لم يحدث ولا توجد بوادر حالية على ذلك. والنتائج على أرض الواقع في مجملها سلبية للغاية، حيث تشير الإحصاءات الرسمية إلى ارتفاع معدلات البطالة خلال الأرباع الثلاثة المتتالية من العام الماضي، وبلغ معدل البطالة للسعوديين في الربع الأخير من العام الماضي 12.3%، مقارنة ب12.1% بنهاية الربع الثالث، والمتوقع أنها في ازدياد، خاصة بعد التقرير السنوي لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية الذي صدر أخيراً وكشف أن معدل توظيف السعوديين في القطاع الخاص للعام الماضي 2016 تراجع بنسبة 37% مقارنة بالعام الذي سبقه، وهذا عدا النسبة الخيالية لعدد الأجانب العاملين في المملكة الذين تتجاوز نسبتهم 78% (10.88 مليون عامل) من إجمالي الموظفين. المشكلة الأزلية مع القطاع الخاص في المملكة هي أن الكثير من الشركات بمختلف أحجامها لا تهتم بالإستراتيجيات بعيدة المدى، ولا تطبق معايير الجودة الشاملة والحوكمة، ومن بينها المعايير العالمية المطبقة في اشتراطات «الآيزو»، التي تتضمن إستراتيجياتها تنمية الموارد البشرية، إذ إن غالبية الشركات الناجحة في العالم الأول تخصص نسبة جيدة ومرتفعة من هامش الربح في تدريب وتطوير الكوادر العاملة والارتقاء بها كجزء أساسي في منظومة العمل، وهذا لا يحدث لدينا في غالبية الشركات والمؤسسات في السعودية، بل الكثير منها في ظل ضعف وغياب الرقابة تتحايل بدفع أموال طائلة للحصول على «الآيزو» صورياً بغرض الحصول على العديد من الامتيازات التي تتيح لها الفرص في إبرام عقود لتنفيذ المشاريع الحكومية والخاصة التي تشترط تطبيق هذه المعايير قبل التعاقد معها، وتعتمد هذه الشركات كلياً على استقدام العمالة الأجنبية الجاهزة ذات الخبرات والمهارات الكافية لتسيير أعمالها توفيراً للجهد والمال على حساب الاستثمار في تنمية الكوادر البشرية الوطنية التي سوف تحقق لها على المدى البعيد نتائج أفضل وقاعدة صلبة للاستمرار في السوق وتحمل تقلباته. والواضح أمامنا الآن هو أن المادة 77 هي بالأساس «حق» يريد به القطاع الخاص «باطلا»؛ لأنها فتحت المجال بشكل غير مقصود أمام الشركات لنهش حقوق المواطنين العاملين فيها باستغلالها ثغرات في هذه المادة تحديداً ونظام العمل إجمالاً شرعت لها هذه الأفعال قانونياً تحت مسميات باتت معروفة مثل «إعادة هيكلة الوظائف وسلم الرواتب»، وفي حالات كثيرة أخرى تقوم الشركات بشكل غير نظامي بالفصل الجماعي والتعسفي مستغلة أن النظر في الشكاوى العمالية يستغرق وقتاً طويلاً يصل إلى أكثر من عام مما يدفع المفصولين إلى الرضوخ لمساومات تبخس حقوقهم. والعواقب أصبحت واضحة وملموسة، بطالة وعدم تكافؤ في الفرص الوظيفية وتهميش للكوادر الوطنية المؤهلة، وأعداد كبيرة من المفصولين المصابين بالإحباط من تدهور أحوالهم المادية، وانعدام الأمان الوظيفي في القطاع الخاص، وإذا استمررنا على هذا الوضع فالتبعات المستقبلية ستكون كارثية وتنذر بتآكل الطبقة الوسطى التي تعد صمام أمان المجتمعات، واختلالها حتماً سيفضي إلى انعكاسات سلبية على عجلة الاقتصاد والأمن والسلم المجتمعي.