على مدار يومين متتاليين، تنفست ذاكرة السعوديين عبق السيرة المكتظة بالأحداث والإلهام للراحل غازي القصيبي، حين أعاد الزميل مفيد النويصر سبر أغوار الجوانب الخفية في حياته المهنية والإنسانية مع رفاق مشواره وأهل بيته، فقدم الكثير عن الكبير في جزأين متتاليين في برنامجه «من الصفر» على شاشة MBC، كانا أشبه بدروس للأجيال الحالية واللاحقة على مستويات السياسة والإدارة والعمل، فرغم أن البرنامج الوثائقي وضع «من الصفر» منطلقاً لبدايات ضيوفه إلا أن المتأمل لمشوار الراحل القصيبي لم يشعر أن له ثمة علاقة بهذا الرقم وهذه النقطة، وقد كانت بداياته زاخرة فاخرة عظيمة تحاكي سيرته في أوج نجاحها. روى نجله سهيل قصصاً من تضحياته من أجل الوطن حتى أنه آثره على نفسه، فكان يتصدى لوزارتين بدلاً عن الواحدة دون كلل أو ملل، وكيف كان الملك فهد -يرحمه الله- يوليه ثقة خاصة فيعهد إليه بالمهمات الجسام، فمن وزير إلى سفير إلى وزير مرة أخرى وإلى ملهم يفجر الأمل والعزيمة في نفوس الطامحين. وروى رفاقه كيف كان يقدم الدروس والعبر بأبسط الطرق ويبتكر الحلول بلا تعقيد، وكيف يتصدى للفساد والبيروقراطية المعطلة بحزم أنيق يشبه شاعريته وأدبه، وكيف كان يُنزل الأمور منازلها والأشخاص مقاماتهم. تجلى ذلك في حديث رفاقه في الحلقتين اللتين أجمعوا فيهما على أنه لم يستأثر بمكانته بصفته وزيرا أو مسؤولا، فكان يقدم على نفسه من يراه الأجدر بإدارة الملفات منه دون حرج، مغلباً مصلحة الوطن على نفسه وشأنه. أحدثت حلقتا «من الصفر» حراكاً على مواقع التواصل، بكاه كثيرون ونعاه آخرون وكأنما لتوه رحل، كما بكاه العاملون معه من نوابه في الوزارات إلى الموظفين العاملين في منزله. القصيبي الذي رفض تسمية الهزيمة بغير اسمها كان الأكثر إيماناً بأن السرطان سيهزمه لا محالة، فوضع لموته مشهداً مهيباً صدع قلوب محبيه وترسخ في ذاكرتهم أن العمل معقود بالأمل، وأن للترحال الذي سئمه نهاية لا تشبه البدايات، لتبقى الأمنيات أن يبعث فينا «غازي» آخر يشبه «القصيبي».