ما الذي يشغله وهو يقرأ التاريخ أو يسعى نحو ابتكار حكاياته؟ هل يستوقفه ما استوقف الآخرين وأطالوا النظر إليه.. وإنْ فعل فهل سيخرج بما خرجوا به وتوصلوا إليه؟.. هذه الأسئلة وغيرها تعبر أمام قارئ عدي جاسر الحربش في كتابه «أمثولة الوردة والنطاسي» (جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت - 2016) والذي رسّخَ به اتّجاهاً ثقافيّاً وخياراً إبداعيّاً برزَ مع إصداره الأول «الصبي الذي رأى النوم» (النادي الأدبي بالرياض - 2008). كثيراً ما أتصوّر عدي الحربش واحداً من العاملين في مجال التعدين الورقي؛ ضارباً في جوف التاريخ؛ غائصاً بين آلاف الأوراق والحكايات الخام. يقوده حدسه، وتنبئُهُ خبرته عن مكامن «الحجر الكريم».. وبصبر الصيّاد وعناية الصائغ يعكف طارقاً ومقشّراً، وينكبُّ بكامل إصغائه يسوّي ويعدّل حتى تنبثق بين يديه جوهرتُهُ العالية؛ الثمينة والنادرة بغزير إشعاعها. الطِّرْسُ، بعديدِ حكاياته المكتوبة والممحوّة، تظلّ به مساحة للإضافة على غير سابقةٍ؛ يمنحها المنظورُ الجديد ويجود بها المكوِّن السحري الغامض والفكرة الطالعة تستدني من يشير إليها ويطلقها إلى مدى أبعد؛ أصيلٍ وطارف. يدلف الكاتب إلى رحاب العصر المملوكي، في قصة «الوردة والنطاسي»، ويستخرج منه حكاية ابن النفيس الذي يُنسب إليه اكتشاف الدورة الدموية الصغرى. يكشط الغلافَ ويُجرِي عمليّة التلقيح بسرّ الوردة وسحرها؛ حلماً وواقعاً. يقطّر الحكاية في إنبيقٍ خاصّ ينأى عن الاعتياد والألفة؛ فتتعالى الوردة مغزى مستوراً ومجازاً مكنوناً. كلّما فلقتَ الصفحة هبَّ عبيرٌ لا اسم له لكنه يمكثُ في الذهن وفي الحواس. وفي قصة «سرّ أبي الطيّب» يتناول ما أشبعه التاريخ الأدبي بحثاً وكتابةً، غير أن ثمّة ما ينتظره وحدَه في مدوّنة شاعرنا العظيم أبي الطيّب المتنبي. ما يتوارى في السيرة وثاوٍ في تضاعيفها. المحرّض على عنفوان المتنبي وتقلّبه في البلاد وبين الحكّام. الشاعر ينكتب في ضوءٍ آخر. تحت مصباح «السرّ» يُقرأ ثانيةً. والأولويّات التي طرحتْها سيرة الرجل يُعادُ هنا ترتيبها. شعره لم يكن صدى ولا تابعاً. الحياة التي مرّ بها هي التحقيق وهي الصدى. حياته ليست إلا تبريراً لهذا الشعر. فالسجن الذي أمضى فيه عاماً واحدا بتهمة ادّعاء النبوّة هو وعاء كلّ ذلك الشعر. وعاء امتلأ وخُتم بخروج المتنبي منه. في البدء كانت قصيدته ثمّ أعقبتها السيرة تبحث عن مصداقها وتفعيل سياقها. الوقائع حدثت في القصيدة أولاً، ثمّ اُبتكِرَ لها السياق: (تخيّلَ، وتخيّلَ، وتخيّلَ، وما كان له أن يحيا لو لم يتخيّل - ص 148). هذه هي اللقية الإبداعية التي صافَحَنا بها الكاتب، وكشَفَها كشْفاً متحرّراً من التاريخ ووثوقيّة يوميّاته. الحجرُ الكريم.. السرّ.. الفكرةُ الأساس.. الجوهر؛ هو حادي عدي الحربش في تنقيباته وفي سرده الممتع. الشرارة المختبئة والبانية هي المقصد. في قصة «وزارة الأسرار» تمرّ أمامنا علاقة السلطان العثماني سليمان القانوني بابنه مصطفى، والنهاية البشعة والمصير الدامي للابن؛ بقتله بتدبيرٍ من أبيه. لا يتوقّف الكاتب عند تفاصيل الحكاية إلا كإطارٍ، ولا يلفته تكرار المصائر الدامية في بلاط الحكم تحت ظلال «القيصر ليس له أبناء. إنما ورثة». يطوي صفْحاً عن هذا كلّه، ويمسك فتيلاً؛ يبلّلُهُ بزيته الإبداعي؛ فيقدح شرارته السحريّة الكامنة في «طبيعة السرّ» التي تقضي باجتماع أجزائه، فخانَ السلطان سليمان تلك الطبيعة، فبدّد السر على مجموعة من الأشخاص -كل واحد يعرف طرفا منه فقط- مخالفاً في ذلك «نواميس الكون»؛ ليعاقَب بافتضاح أسراره التي لم يبح بها لأحد، فيراها مكتوبةً على حائط القصر، ومعها تحذير: «من عمل ضدّ نواميس الكون ضربه الله فوق هامته - ص 203». يوظّف الكاتب الحكايةَ خارج مبناها العام، فيفلسف السرّ ويجعل له طبيعة سحرية، من يخرج على شفرتها فإن أمره موكول إلى الفضيحة.. وأحسب أن الفكرة نفسها، وإن بتنويعٍ، هي التي أنتجت قصة «خنجر يمان» حيث الخيانة المتبوعة بالانتقام مجسّدة في «خنجر» مترحّل له الهيئة عينها منذ «استعمله كليب في نحر تبّع»، وهو على حاله لم يتغيّر بجوهره الساري في الزمن بإرادة القتل وتشهّي الدم. في عملية مستمرة من خيانةٍ أولى تتوالَد انتقاماً فخيانات لا تتوقّف ليستمرّ الخنجر في حضوره وفعله الدمويّ. عدي الحربش يضع يديه في طين التاريخ وينفخ فيه من روحه. يمهره بختمه الإبداعي ليستوي في صورة من الجمال لم تكن. *كاتب سعودي