الشعب التركي هو الذي خرج منتصرا من الانتخابات البرلمانية التركية يوم الأحد قبل الماضي. صحيح حزب العدالة والتنمية حصد من مقاعد البرلمان ما يمكنه من تشكيل الحكومة منفردا، إلا أن الحزب فقد 5 مقاعد مما كان يتمتع به في البرلمان السابق (331 مقعدا)!؟ بالإضافة إلى ترسيخ خسارة الأحزاب العلمانية التقليدية، تمت معاقبة حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي)، بتأييده للعنف حيث بالكاد تعدى عتبة ال 10% اللازمة لدخول البرلمان، بعد أن تجاوز ما حصده في انتخابات يونيه الماضي ال 13%. باختصار، يمكن القول: إن انتخابات الإعادة المبكرة في تركيا في الأول من الشهر الحالي أعطت بإنصاف الوزن الحقيقي للأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان الجديد. 87% من الشعب التركي (47 مليون ناخب) تقاطروا منذ الصباح الباكر على مقار الاقتراع لاختيار 550 نائبا لشغل مقاعد البرلمان الجديد، في مهرجان ديمقراطي لم تشهد مثيلا لكثافة الإقبال على التصويت أعرق الديمقراطيات التقليدية في أوروبا الغربية وشمال أمريكا واليابان. بهذا السلوك الانتخابي الواعي يبعث الشعب التركي برسائل للنواب الجدد والحكومة والرئاسة والمعارضة على أنه الرقم الصعب والأصيل في معادلة حكم تركيا. لم يعطِ الشعب التركي كل ما يريده حزب العدالة والتنمية، ليُذّكر زعماء الحزب بأنهم سيكونون تحت رقابة صارمة لأدائهم طوال السنوات الخمس القادمة، ربما بصورة أقسى من تلك التي يفرضها على نواب المعارضة. صحيح أن الناخب التركي سمح لحزب العدالة والتنمية أن يحكم بمفرده، غير ما تمخضت عنه انتخابات يونيه الماضي، إلا أن الشعب التركي لم يعطِ الحزب تفويضا كاملا لتنفيذ أجندته السياسية التي يرغب بموجبها إحداث تغييرات جذرية في هيكلية النظام السياسي التركي، إن هو حصل على أغلبية الثلثين (367 مقعدا)... وإن كان الحزب قد تمكن في البرلمان السابق، من تمرير قانون الانتخابات الرئاسية لسنة 2012، الذي بموجبه جرت الانتخابات الرئاسية 1014 وأتت بالسيد رجب طيب أردغان ليكون أول رئيس تركي منتخب مباشرة من الشعب وليس البرلمان. كعادته، الناخب التركي لم يعطِ حزب العدالة والتنمية تفويضا على بياض، بل قدم له «ثقة متحفظة»، إلى حدٍ كبير. من أهم أولويات حزب العدالة والتنمية، في المرحلة القادمة تعديل الدستور، بل وحتى تغييره. دستور 1981 الحالي وضعه العسكر، وهو يخفي وراءه شبح الانقلابات العسكرية. كما أن الدستور الحالي يؤكد على قوة القانون، وبالتالي سطوة حكم الدولة، بينما يريد الحزب قلب المعادلة ليتم التركيز على منظومة الحقوق، وتأكيد سيادة الشعب، فالقانون، كما يقول منظرو الحزب، ليس بالضرورة يكون دائما على حق. كما تأتي قضية التحول إلى النظام الرئاسي، بدلا عن النظام البرلماني الحالي، في مقدمة أولويات حكومة حزب العدالة والتنمية التي سيرأسها السياسي العتيد البروفيسور أحمد دَاوُدَ أوغلو. الرئيس أردوغان يريد أن يُحْكِم قبضته على السلطة، ويجعل مرجعيته الشعب، وليس البرلمان، حتى يتمكن بحرية من المضي في إصلاحاته السياسية، ويحقق نظرته في مستقبل تركيا، التي هي ليست بعيدة عن التراث العثماني، ما قبل علمانية نظام مصطفى كمال أتاتورك الحالي. كما أن الرئيس أردغان، في حالة التحول إلى النظام الرئاسي سيكون بإمكانه الهيمنة على الحكومة، التي هي بموجب الدستور الحالي تحت هيمنة البرلمان.. بالإضافة إلى أنه سيكون بإمكان الرئيس أردوغان، في ظل النظام الرئاسي، أن يعين وزراء من خارج البرلمان، وإن كان يتعين عليه الحصول على ثقة البرلمان في الحكومة، إلا أن الحكومة ستكون، بصورة أساسية ضمن صلاحياته وتحت مسؤوليته، مما يقود في النهاية إلى زيادة نفوذ رئيس الجمهورية، عما كان عليه الحال في النظام البرلماني. وإن كان الرئيس، في النهاية وحكومته، سيكونون تحت رقابة البرلمان ومحاسبته، إلا أن الرئيس كونه رئيسا منتخبا، وبما يمتلكه من سلطات تنفيذية واسعة، طبقا للنظام الرئاسي، يستطيع أن يناور البرلمان، خاصةً إذا كان يتمتع بشعبية لدى الهيئة الناخبة (الشعب) . قضية تعديل الدستور، إذن، هي الورقة التي عزّ الناخب التركي عن إعطائها لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ليعبر للحزب عن «ثقته المتحفظة» فيه، ويُذّكره بأنه، أي الشعب، مصدر كل السلطات، وليس موضوعها. حزب العدالة والتنمية يحتاج، في قضية تعديل الدستور إلى 367 مقعدا، وطالما أن الحزب يتمتع فعليا ب 326 مقعدا، فإنه في هذه الحالة يحتاج إلى 41 مقعدا إضافيا لكتابة دستور جديد. حتى يحصل على تعاون أحزاب المعارضة في قضية الدستور، فإن ذلك لن يكون دون مقابل سياسي ربما يكون باهظا من وجهة نظر الحزب... وإن كانت بعض أحزاب المعارضة العلمانية لا تمانع في إجراء تعديلات على الدستور، إلا أنها لا ترغب في الانتقال إلى النظام الرئاسي.. وإن كان حزب الشعوب الديمقراطي مع التحول إلى النظام الرئاسي، فإنه لن يقبل بصيغة النظام الرئاسي التي يقترحها حزب العدالة والتنمية، خوفا من الإفراط في صلاحيات الرئيس، خاصةً إذا كان رئيسا طموحا وشديد المراس، مثل الرئيس أردوغان. قضية تعديل الدستور هذه يعرف حزب العدالة والتنمية، من نتيجة الانتخابات الأخيرة، أن الشعب التركي احتفظ بالفصل فيها لنفسه، في حالة لجوء الرئيس إليه لتمرير قضية تعديل الدستور أو إعادة كتابته، عن طريق آلية الاستفتاء. خيار الاستفتاء هذا، بالرغم من جاذبيته، مقابل بديل المساومة مع المعارضة، إلا أنه ليس مضمونا، بصورة أكيدة. فعلى الرئيس والحزب العمل بكل جدية وتفانٍ للتأكد من الحصول على موافقة الشعب في الاستفتاء على الدستور الجديد، وإلا فإن أي نتيجة سلبية لاستفتاء من هذا القبيل ستكون كارثية على الرئيس والحكومة وحزب العدالة والتنمية. الديمقراطية، في التحليل الأخير، هي مطية الشعب لفرض سيادته وتوكيد إرادته... هذه هي الحقيقة الكبرى التي تمخضت عنها الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة.