أقسى الأحلام هي الأحلام التي تختارنا.. تستجدينا بخبث لتنفيذها.. لكنها لا تدوم.. هذه قصة طفل كتبها الكاتب الأمريكي «كيرث وينجت» عن ويلات الحرب العالمية الثانية.. القصة مثل جذوة جمر في حفنة رماد في كفين مفتوحتين عاريتين.. القصة تعبر عن مآسي الأطفال اليتامى الذين أعمارهم بعمر الحزن وهم كثيرون في العالم القديم والحديث.. تتحدث القصة عن 70 طفلا يضمهم ملجأ في قرية ألمانية تقع في المنطقة التي احتلها الأمريكان تشرف عليها «راهبات» وعندما يكون الجو لطيفا تصحبهم «راهبة» إلى نزهة في الغابات الفسيحة كالنجوم التي تمر دائما في المكان نفسه في السماء سجينة إلى الأبد في الفضاء الشاسع السجين.. يمر الأطفال بجوار محل لنجار ألماني عجوز يحاول عندما يشاهدهم أن يكتشف جنسياتهم.. كان بين الأطفال طفل اسمه «جو» لونه يشبه البن المحمص وشعره أسود مجعد وعيناه كالمشعل بين الليل والغسق.. خمن العجوز أن يكون الطفل أمريكيا من أصل أفريقي فكثيرون من الجنود في المعسكر الأمريكي لونهم أسمر.. وكان النجار يحب مداعبة الأطفال اليتامى قال ل«جو» إن والده موجود في المعسكر الملاصق للقرية خلف التلة.. ولأن ثمة شيئا مجهولا فينا نحن البشر لا يجري رويدا.. رويدا.. بل يندلع.. يتوق لتذوق متعة لقاء الغائب.. فار كل شيء داخل الطفل واسترسل يسأل العجوز أين يقع المخيم؟ وهل هو بعيد إذا ركضت إلى التلة هناك متى أصل؟ وهل يمكن أن أرى أبي؟ هل يمكنك أن تقول لي كيف وجهه؟ يبدو لي وجهه أشبه بغيمة؟ هل تذكر رائحته؟ هل رائحته تشبه الجلد المخلوط بالتبغ؟ هل سمعت صوته؟ في هذه الأثناء حضرت الراهبة وحاولت أن تقنع الطفل أن لا يصدق النجار لأنه يمزح معهم.. لكن الطفل كانت كل أحلامه تدور حول الأب الغائب! كان يلثم حلمه كل ليلة للعثور عليه.. فأخذ كلام العجوز بجدية.. سأل الراهبة وكل دموع الطفولة تنزل من عينيه إن كان والده جنديا أمريكيا؟ فقد أكد لي أحد زملائي في الملجأ أن والدي أمريكي أسمر وأمي ألمانية وأنه ذهب بعيدا وتركتني أمي في الملجأ.. أجابته الراهبة لا أحد هنا يعرف من هما والداه.. سألها الطفل من هو الأمريكي؟ ولما أجابته عن موطنه.. سألها أين هي أمريكا! أجابته إنها بلاد بعيده جدا عبر مياه كثيرة وفي طريق العودة للملجأ شاهد جندي أسمر طويل القامة بجانب المعسكر الأمريكي.. فقال للراهبة إنه شاهد أباه ويريد أن يذهب إليه في المعسكر.. أخبرته أنه لا يعرفه ومن شاهده ليس أباه.. لكن الطفل تسلل في الظلام إلى المعسكر عبر الغابة وبالصدفة خرج الجندي الأسمر من خيمته.. سار بجواره وتعثر به.. حمله وصرخ في الحراس فخرج بعض الجنود على صوته.. قال الطفل بالألمانية إنه يبحث عن أبيه! لم يفهم أحد كلامه وطلبوا من أحد الضباط الذين يعرفون الألمانية أن يتحدث مع الطفل فسأله الضابط أين بيتك؟ قال الطفل بيتي عبر مياه كثيرة.. ثم سأله أين أهلك؟ قال الطفل إنهم أهله وهرب من الملجأ ليعيش معهم.. ضحك الجنود وتعالت تعليقاتهم الساخرة.. فنهرهم الجندي الأسمر وقال لهم إن الرثاء والشفقة هي أقل ما يستحقه أطفال باغتهم المستقبل من حيث لا يتوقعون مثل فارس ملثم!! جاء الضابط بسيارة ليعيد الطفل إلى الملجأ لكنه مثل طيور «مالك الحزين» المودعة المهاجرة التي تحوم بأسا وحنينا غريبا حول الرقعة التي تحب قبل أن تهيئ نفسها للفراق عنها.. تعلق الطفل بالجندي الأسمر وهو يناديه «بابا» وأنه يريد أن يبقى معه.. حمله الجندي الأسمر وذهب الضابط بكي الطفل فقال له الجندي لا تبك فالجنود أرسلوا معنا هدايا كثيرة لك ونحن راحلون في الصباح.. ابتسم الطفل ونام على صدر الجندي الذي سلمه للراهبة التي كانت تقف بجوار باب الملجأ تنتظر من أرسلته ليبحث عن الطفل المفقود.. في صباح اليوم التالي التف الأطفال حول «جو» وهم يسألونه من أين جاء بهذه الأشياء الجميلة؟ أجابهم وهو منتشٍ إنها من «أبي» سأله أحدهم كيف عرفت أنه أبوك؟ أجاب ببساطة لأنه بكى عندما تركني.. ووعدني أنه سيصحبني إلى بلدي عبر مياه كثيرة.. أكثر مما تتصور.. أبي وعدني لذلك تركته ينصرف!. [email protected]