خلطت الألقاب التي يمنحها بعض «من لا يملك» لبعض «من لا يستحق» أوراق الصالحين للألقاب والمؤهلين لها من غيرهم. وربما منحت الطفرة والصحوة عشرات الألقاب، والراصد للتاريخ الطويل للمسلمين يجد أن القرون الهجريّة الأربعة الأولى تحديداً لم تشهد ظهور هذا النوع من الألقاب إلا نادراً، بل إنّ مراجعة كتب الرجال والتراجم القديمة وكتب الجرح والتعديل تعطي نوعاً من التوصيف منها «الشيخ، العالم، المحدّث، الفاضل، الثقة، جليل القدر، القاضي، رفيع المنزلة، الشريف، شيخ الأصحاب، وجه الأصحاب، الرئيس الأقدم، المقدَّم، نقيب العلماء، قاضي القضاة، عظيم المكان»، بل يربطون بين الشخص وبين صفةٍ جسدية أو مكانيّة أو مهنيّة أو قبليّة أو عشائريّة أو دينية أو مذهبيّة. ومنها الجاحظ، والأخفش، والأعشى، والنجّار، والحداد، والورّاق، والعلاف، والبصري، والكوفي، والطائفي، والخراساني، والشامي، والفارسي، والبحراني، والمكّي، والمدني أو المديني، والمصري، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، والحنفي، والشيعي، وترى التميمي، والأسدي، والقرشي، والهاشمي، والأموي، والعلوي، والفاطمي، والكندي، والثقفي، والعبدي، والشيباني، والأزدي، والطرابلسي. وفي النصف الأخير من العصر العباسي الثاني، بدأت تظهر ألقاب كانت محدودة للغاية ومقتصرة على أشخاص محدّدين جدّاً، إذ ظهر لقب «حجّة الإسلام» واختصّ بأبي حامد الغزالي (505ه)، و«إمام الحرمين» الذي اختصّ الإمام الجويني، و«شيخ الإسلام» ابن تيمية. وأيضاً «برهان الملّة والدين، وتاج الإسلام، وشمس الدين، والجهبذ، ومفتي الديار، ورشيد الدين، وعز الدين، والإمام، وسيف الدين». وتنامت الألقاب في العصر العثماني، ومنها «الإمام الأعظم»، والذي أُطلق على أبي حنيفة النعمان وإليه تنسب الأعظمية اليوم في العراق. وجددت وزارة الثقافة والإعلام تحذيرها من إطلاق لقب «الشيخ» على من لا يستحقه، مشددةً على عدم إطلاق لقب «شيخ» إلا على مشايخ القبائل المعتمدين من الجهات المختصة، أو مشايخ الدين سواء في أخبار أو تقارير أو إعلانات وسائل الإعلام. يذكر أن وزارتي الداخلية والثقافة والإعلام تحذران منذ أعوام من عمليات استغلال لقب «الشيخ» من جانب أشخاص غير موثوقين، بعد رصد حالات نصب واحتيال باستخدام هذه الألقاب، فيما يطالب مراقبون بوضع ضوابط تختص بالمسميات والألقاب، كون ما يصدر الآن من توجيهات هي تعليمات فقط، وليست قوانين. من جهته، أوضح مدير فرع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في منطقة عسير الدكتور عبدالله بن محمد الحميد أن لقب الشيخ ابتذل، مضيفاً أنه «لقب عظيم لايستحقه إلا أصحاب المواقع الرفيعة من العلماء الشرعيين، ومشايخ القبائل». لقب الشيخ مستباح وقال الحميد ل«عكاظ» إنه أصبح كلأً مُستباحاً لكل من هبَّ ودبّ لدرجة «تثير الغثيان والاشمئزاز إذ بتنا نسمع عن شيخ الحراج وشيخ الصاغة»، مضيفاً «من المعلوم أن لقب «شيخ» بمعناه المعاصر الذي يدلُّ على الرفعة في المقام لم يكن معروفاً عند السلف الصالح وإنما كانت دلالته على الكِبَرِ في السن كما قال الشاعر العربي: زعمتني شيخاً ولستُ بشيخٍ. إنما الشَّيْخُ من يدبُّ دبيبا». ويؤكد الحميد أنه كان الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - ينادي بَعْضُهُمْ بعضاً بأسمائهم المُجرّدة على رغم سابقتهم في الإسلام. وشرف صحبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام - وزاد «لأجل ذلك فلا قيمةَ لذلك اللقب في ميزان الشرع إذا قُصد به التعالي على الناس. لما فيه من دلالات الْكِبْر والتعاظم والكذب». ويرى الحميد أنه مادام في الأمر سعة وأنه لابد أن يُنْزَلَ النَّاسُ منازلهم كما حثّ على ذلك ديننا الإسلامي فيجب أن يُقتصر إطلاق لقب «شيخ» على من يستحقه من العلماء وخطباء المساجد وشيوخ القبائل فقط، حتى يتم ضبط هذا الموضوع إثر اختلاط الحابل بالنابل كما يقال في المثل. الطفرة الأولى من جهته، يعزو الخبير الاقتصادي صالح بن بكر الطيار موضة الألقاب إلى الطفرة المالية الأولى في السبعينات عندما قلبت معادلة الطبقات الاجتماعية فرفعت في غمضة عين «مجاهيل» سكنوا قصوراً وركبوا الفاره من السيارات، وجمعوا أموالاً لا تحصى بأسهل وأيسر الطرق. وعدّ في حديثه إلى «عكاظ» الطفرة المالية والصحوة لاحقاً من أسباب انتشار الألقاب خصوصا لقب «الشيخ». ويؤمل أن تفرض عقوبات على كل من يصنف نفسه أو يضع أمام اسمه أو في بطاقات عمله لقباً لا يستحقه بحكم تخصصه. أو وظيفته الشرعية أو القبلية. شخصية مهزوزة فيما طالب شيخ قبيلة بني عبدالله في منطقة الباحة فيصل بن عبدالعزيز بن عبدالهادي في حديثه إلى «عكاظ» ضبط هذه العملية ومراقبتها. كونها كما يرى هبة من لا يملك لمن لا يستحق. وتطلع إلى رقابة صارمة في هذا الموضوع كونه دخل على المشيخة من ليس منها ولا هو من أهلها ما يسبب ربكة عند المسؤولين وفي مجالس المشايخ. وعدّ الحريص على ألقاب لا يستحقها ضعيف نفس ومهزوز شخصية. مطلب التنظيم يؤكد الاستشاري النفسي الدكتور علي الزهراني ل «عكاظ» أنه يقف معاضداً مثل هذه القرارات التنظيمية التي يهدف من ورائها المشرع الصالح العام، موضحاً أنه كان له رأي قبل سنوات عدة حول لقب ومصطلح «شيخ» ولفت إلى أنه لاحظ من خلال عمله في لجنة المناصحة لأكثر من (12) عاماً أن هناك شبابا يذهبون لمناطق الصراع لمجرد أنه أخذ فتوى من إمام مسجد (الحي أو القرية). وأشار إلى مطالباته السابقة بأن يكون هناك تصنيف للمشايخ أسوة بتصنيف الأطباء فمنهم «طبيب مقيم. وأخصائي واستشاري» وتطلع إلى أن تكون لهم هيئة مثلما للأطباء هيئة تعنى بمنح الألقاب العلميه (عالم، شيخ، فقيه، طالب علم، إمام جامع، إمام مسجد) وزاد «على أن يحدد لكل فئة حدود فتواه حد أن يطلب من هذا الشيخ أن يحيل من يطلب الفتوى «لأمورعظام» إلى الجهة أو الهيئة العليا المعنية بذلك ألا وهي «هيئة كبار العلماء» وتعزز إعلامياً وإدارياً لكي تصبح مع مرور الزمن أمراً طبيعياً وظاهرة عامة كما هو الحال في حالات «الطلاق» إذ يحيل كل شيخ السائل أو المستفتي إلى «المفتي العام» كونه مرجعية. الصحوة أنعشتها.. وابن عثيمين يراها تساهلاً «المشيخة» لا تفارق «دُعاة الكاسيت» في مواقع التواصل! ساهمت «الصحوة» في انتشار لقب الشيخ حتى أضحى لقباً لمؤذن المسجد ومعلم القرآن والمتحدثين في العلوم الشرعية دون التمحُّص في قدرتهم المنهجية على البحث العلمي. ويشاع استخدام مفردة الشيخ في حسابات الدعاة المشهورين بالوعظ في مواقع التواصل الاجتماعي. وعادة ما تُذيل جملة «الحساب الرسمي لفضيلة الشيخ» في التعريف في صفحاتهم على «فيسبوك، تويتر»، وبين زمن كان رجال الدين يتحاشون مفردة الشيخ، يطل الدعاة اليوم بأسماء لا تقبل الظهور مجردة من ألقاب فضيلة وشيخ. وانتقد عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الراحل محمد بن عثيمين انتشار مفردة الإمام، على أنها «تساهل بعض الشيء»، وقال عنها (في الشرح الممتع على زاد المستقنع- المجلد الأول) «وقد كثُرَ في الوقت الأخير إطلاق الإمام عند الناس حتى أنه يكون الملَقَّب بها من أدنى أهل العِلم، وهذا أمرٌ لو كان لا يتعدى اللفظ لكان هيِّناً، لكنه يتعدى إلى المعنى، لأنَّ الإنسان إذا رأى هذا يوصف بالإمام، تكون أقواله عنده قدوة مع أنه لا يستحق». ورغم أن انتقاد ابن عثيمين على مفردة إمام تأتي من جانب تأصيلي للتفريق بين الفقهاء المقلدين والأئمة المجتهدين، بيد أن انتقاده انتشار الألقاب على الأشخاص الذين قد لا يكونون على معرفة ودراية، ترجمتها التحفظات التي يبديها كثير من المراقبين. من جهته، يؤكد عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان ل«عكاظ» عدم جواز إطلاق لفظة «شيخ» إلا على عالم أو الرجل المسن، معتبراً الشهادات العلمية في العلوم الشرعية ليست سبباً كافياً لإطلاق لفظة الشيخ على حاملها، «ولو كان معه شهادات لا يصح إطلاق لفظ شيخ عليه والعالم يطلق عليه لفظ شيخ ولو لم يكن حاصلا على شهادات». وعن كيفية معرفة أن الشخص عالم في العلوم الدينية، أجاب الفوزان أن «الشخص يعرف بأنه عالم من خلال شهرته بين الناس». وعاود الشيخ ابن عثيمين مناوءته من تفشي لقب الشيخ على من لا يستحقون (في تسجيل صوتي لإحدى محاضراته)، وأكد أن الأمر لا ينبغي بعد أن «تفشت حتى صار اللقب يطلق على الجاهل ومن لا يعرف شيئاً». وعزا ابن عثيمين مناوءته للأمر إلى «لأنك إذا أطلقت على هذا الشخص (شيخ) وهو جاهل لا يعرف يغتر الناس به ويحسبون أن عنده علماً فيرجعون له الاستفتاء ويحصل ضرر عظيم»، منتقداً عدم مبالاة كثير من الناس في الإفتاء وإن كان ليس له علم، «لأنه يرى إذا قال لا أدري أن في ذلك نقصا في حقه، النفوس مجبولة على محبة الظهور». ورأى الشيخ محمد أن كلمة (شيخ) لا تطلق إلا على من يستحقها لكبره أو لشرفه وسيادته في قومه أو لعلمه. ويرجع مراقبون تفشي لقب الشيخ إلى انتشار أشرطة «الكاسيت» الحماسية إبان فترة الثمانينات وازدهارها في بداية التسعينيات التي جعلت من متصدري الخطابات الحماسية والدعائية مشايخَ، وساعدت القنوات الفضائية على بروز أسماء كثيرة دخلت ضمن «المشيخة الحركية» التي يناوئها السلفيون. فأكاديمي تخصص في الزراعة، وأطل عبر الكاسيات ومداخلاته التلفزيونية بخطابه الحماسي، توجت مسيرته بلقب «الشيخ» وبات يستضاف في القنوات الفضائية على أنه رجل دين وشيخ عالم!. وذاعت مفردة «الشيخ» في اللغات الأجنبية، ويعرف معجم «أكسفورد» أن الشيخ كلمة تعني زعيم الدولة كزعامات الخليج، وتعني أيضاً الزعامة الدينية في المجتمعات المسلمة. ويحكى قديماً أن لقب «الفقيه» أو «الشيخ» كان يطلق على معلمي القرآن الكريم والكتاتيب، في وقت كان منصب معلم القرية مهماً للغاية في شؤونها الداخلية، بيد أن الانفتاح الكبير الذي طال السعوديين بعد مرحلة الطفرة غير كثيرا من أسلوب حياتهم. قاض سابق: أضحت مصاحبة للمظاهر أكد القاضي السابق نصر اليمني صدور توجيه سابق للمحاكم يقضي بعدم إطلاق لفظ شيخ في المخاطبات الرسمية إلا وفقاً لضوابط محددة؛ من بينها أن يكون خريج إحدى كليات الشريعة وأصول الدين، مستدركاً «إلا أن إطلاق اللفظ دون مخاطبة رسمية أمر غير مجرم قانوناً كون عرف المجتمع اعتاد أن يطلقه على رجل الدين أو ذي المال الوفير أو شيخ القبيلة». وقال اليمني ل«عكاظ» إن المسألة تعدت الرجل المسن وذا الحكمة أو العلم «فأصبحت تطلق على المظاهر، إذ أصبحت متداولة مع كل من أطلق لحيته أو قصر ثوبه أو أمّ الناس بالمسجد». ورأى أن إطلاق لفظة «شيخ» على أي شخص قد يمكن الفرد من إطلاقه على دعاة التكفير أو دعاة الفتنة ودعاة الجماعات الإرهابية، موضحاً أن تكرار لفظة شيخ على المتشددين يسهم في تغرير الناس بهم ويسهم في ثقة الجماعة بمن أطلق عليه كلمة شيخ حتى يأخذوا فتواه وتوجيهه رغم أنه ليس أهلاً لذلك.