تجاوزت ثورة المعلومات حدود الدول، واخترقت خصوصيات الزمان والمكان عبر طفرة وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى سهولة إيصال المعلومة، غير أن تلك المعلومات تحمل في طياتها الغث والسمين، وتنطوي على الصحيح والزائف، وتجمع البسيط والمعقد، وتشمل الأخلاقي وغير الأخلاقي.. بل أكثر من ذلك. ولا بد أن يندس تحت البريق الشكلي للثورة المعلوماتية؛ آيديولوجيات متضادة، تتسرب خلالها قيم ثقافية معينة، ما يجعل من الواجب إعمال أكبر قدر ممكن من الفرز والانتقاء والتمحيص لما تبثه الوسائط المختلفة، ثم بعد ذلك يكون النقد والتقويم، والتدفق المعلوماتي وسهولة الوصول إليه؛ يقتضي توظيف الفكر وتطوير النقد واستغلال الثورة المعلوماتية، بما يخدم المعرفة ويرفع من مستوى الوعي ويحقق التنمية المستدامة منها وغير المستدامة، بعيدا عن الاستخدام المخل لتلك الوسائط في بث الشائعات وتجذير الصراع الثقافي والتصنيف، الذي يفرز المجتمع على أسس آيديولوجية، وفي مثل تلك الظروف، يرى كل طرف أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة، وأن من خالفه لا يملك منها شيئا!. في هذا الخطاب الحدي (المطلق) يرى البعض السبيل إلى النهضة، هو في اتباع الخطوات التي سارت عليها أوروبا إبان عصر التنوير خطوة بخطوة، وكأننا أمة لا تاريخ ولا حضارة لها، فيما يرى البعض الآخر أن السبيل يكمن في التطبيق الحرفي لما كان في عصر النبوة، كأن الزمان لم يتغير، ومع أننا أمة وسط في دينها ودنياها، فإن الخطاب الحدي هو المسيطر لدينا. في ظل الموجة العاتية من فوضى التقنية الخلاقة، يسيس الجهد التنموي والثقافي، وتنتشر في وسائل التواصل كانتشار النار في الهشيم، ويصبح العمل التنموي المحض آيديولوجيا مصبوغة بألوان زاهية.. ومن الطبيعي أن تتعذر في جو كهذا إثارة قضايا جديدة، أو تقديم منظورات متجددة لإشكاليات تنموية قائمة، وينحصر جهد الفرقاء في إثبات صحة مقولات يعتقد أصحابها أنها صحيحة مطلقة، ويكرس الجهد في وسائل التواصل لإيصالها لأكبر عدد ممكن لزيادة مصداقيتها في الواقع الاجتماعي والسياسي، كل فريق يتعامل مع المجتمع بمبضع الجراح، فيبتر ما ليس متسقا مع إطاره الفكري، ويضخم ما يرى فيه تصديقا لمقولات يؤمن بها. وهكذا نسير في حلقة مفرغة من الصراع الحدي المعيق للتنمية؛ من خلال إرباك العامة وتشكيكها في مسيرة البناء، وهذا ليس بجديد، فمن يقرأ تاريخ التنمية في دولنا العربية سيجد محطات متكررة من تلك المماحكات الآيدلوجية مع اختلاف توجهاتها واختلاف الوسائل المستخدمة لترسيخها في الوعي المجتمعي، ولا غرابة أن نتأخر عن الركب. نحن أحوج ما نكون اليوم إلى ترسيخ نسق فكري جديد لأجيالنا القادمة؛ يقوم على النسبية في النظر إلى القضايا التنموية بعيدا عن النظرة الحدية (المطلقة)، مستخدمين الوسائل الجديدة والأخرى التقليدية، كمنابر الجمعة ومناهج التعليم والأندية الأدبية والمؤسسات الرياضية ووسائل الإعلام، وحين نصل إلى هذه المرحلة، سنطمئن على مسيرتنا التنموية ومشروعنا الحضاري، أنه يسير في الطريق النهضوي المتوازن والصحيح بعيدا عن الآيدلوجيات الحدية والمعيقة. [email protected]