فتح أبو عامر درفتي البداية الخشبية. أطل على الوادي المخضّر. رفع نظره إلى السماء مردداً (يا الله إنا عندك. رب لا تجمع علينا عسرين. عسر الحيلة. وعسر السماء). كانت الغيوم الخفيفة تتراقص فوق جبال القرية كأجنحة الطير. والأغنام تنتشر فوق المقابر وعلى السفوح. فيما لا تزال القرية ساكنة. والرعاة ينتظرون أن تهبهم شمس الخريف بعض دفئها. التفت إلى الوراء. أشفق على أطفال يغطون في نوم عميق. رد اللحاف على أجسادهم الغضة. ونادى الكبرى (رفعة). تمغطت وردّت (أصبحت يا به) رد: بخير. هيا الحقي غنمك. أنا فكيتها من المراح بعدما رضّعت البهم. لبست شيلتها وربطتها بالمعصب. وأردفتها بالشرشف الأبيض. تناولت من أبيها تمرات وكسرة خبز وانطلقت. سمع صوت جاره (أبو حسن) يتسلل إليه من المسراب «محمد بنسرح اليوم» أجابه نعم. قال «يانا فداك. باسبقك أركب العداد واصحي اليمنة». ولم تكد تمضي ساعة حتى كانت المناثل الفائضة بنثيل البئر تتوالى يسحبها الثور. والعم (علي) يداعبها بأشعاره (ازهموني بالشويش. والزمو ثوري حبيش). ويرفع الصوت (علّ وعلى الله الفرج). فريق العمل من اليمنيين ينظفون البئر بغرف الحجارة والأتربة بالمساحي ووضعها في القفف. وبينما المذياع يصدح بصوت فيصل علوي من قاع البئر (كيف الحال وامغترب) يفوح شذى الحبق. وتتناغم أصوات العصافير. ويخفت همس الصبايا بأحلامهن وسر النوى. وتتبهرج أقدام النساء على المنحدرات ليملأن القرب بماء زلال. كرّت الأعوام وفرّت. وأبو عامر مستند على جدار القف. زفر وهو يتهرج مع نفسه (أوووه يا بو عامر. كيف انقضت الأيام. وتبدّلت الأحوال. الركايب مليئة بالتجاعيد كأنها وجهي المطبوعة عليه بصمة السنين. المساقي تفقعت مثل كعوب ارجولي. والآبار موحشة تهدمت أركانها. وغار منها الماء). كان قد غادره جميع أولاده إلى وظائفهم في المدن. وظل بمفرده يصالي على الطرقات الوجوه والأعين. سمع أحدهم قبل سفره يقول (أبى يسمع الكلام شيبة الجن ويخرج من تيه القرية الغبراء). تذكر ما أنفقه من سنوات في سبيل تعليمهم وإطعامهم وتأمين احتياجاتهم. طفرت دمعة ساخنة وردد مع خرصان «يا خساره على اللي لا كبر قام يعطي الجن بوه». علمي وسلامتكم.