لعلي حين أركض في الوادي أجد مخرجاً ما من ضيق صدر الجبل بي.. الكهوف المظلمة تختبيء خلف فوضى الأشجار..، والشمس تجلس على رأس الجبل في غير تعالٍ منها..، ولغط القرية ينطح السماء دون رغبة.. ليس جديداً عليّ تبرمهم من توغلي في الغابة..، ولا موافقتهم لفتوى جوان مخترع ألعابنا الذي لا يضاهيه أحد في ذلك: - هذا لا يقع ضمن اتفاقنا على قوانين ألعاب ألفناها كل يوم..، كما أننا نعرف جيداً أن السعلاة والوحوش تتربص بنا هناك.. حكاياتي عن السهل الممتد في أراض ٍلا تستوطنها الأشجار أُضيفت إلى أطنان الكذب التي رصدوها تطن في رأسي طنين الذباب، وأصبح لديهم يقين بجنوني عندما أعلنت سورة البحر والصدف، وامتداده حتى خط غريب يرافق الشمس أينما ذهبت، لا ترى بعده العين شيئاً.. أما سورة النهر وعذوبة مائه، واتصاله بنبع قريتنا، فقد كانت محض نكتة، تندروا بها علي طويلاً، وصرت - وفقاً لغرابتها - خاسراً بينهم في كل لعبة، وإن فزت فيها حقاً، أو تفوقت على جوان أيضاً.. اشتكى بعضهم لأبي بسبب إفسادي لسباقاتهم وألعابهم بسوري العابثة بيقينهم الخالص.. - لا تقصي كل كابوس حلمت به على رفاقك في اللعب.. هكذا نصحني أبي موبخاً إياي.. لم يجد نفعاً قسمي له أنني قد سبحت حقاً في البحر، وفي النهر مراراً، لم يفهم أصلاً معنى كلمة سبحت، ولم يعرف معنى كلمتي نهر وبحر، فجميع ما قلته من غريب الألفاظ، تمخضت عنها لغتي الأنثوية اللقيطة.. بلا شك أسَرَتني الوحدة..، وأضحيت أرتقي الجبل كل يوم قاصدة كهف امرأة عجوز، اتهمت قبل أن أخلق أنا بالجنون.. عظمت فرحتي.. حين صدقتني تلك المجنونة، ووافقتني مؤمنة بوجود كل ما أنكره الآخرون علي..، غير أنني سرعان ما شرعت ببكاء مرير، وأنا أصغي لنصائحها الهادئة.. في الليل، وأنا أرتجف تحت دثاري مغتالة بحمى الاغتراب، تذكرت ما قالت، وعيناي تطاردان النجوم في تظاهرتها التي لا تنتهي إلا عند قمة الجبل.. ترفّل صوتها أمام الصمت كما لو أن وحي جبريل قد تداخل معه.. - لعلك عند مفترق سبيلين لا ثالث لهما، إن شئت استمري في ثرثرتك حول ما لا يرونه حتى تصادفي يوماً ما طفلاً جريئاً يتناوشك بالحجارة، لينضم بعدها أقرانه إليه.. يتبع ذلك استحسان الكبار لما يردده الصغار، لتمر الأعوام، وتشيخي في كهف مشابه لكهفي.. وسيان إن هربت بجلدك عند أهل النهر والبحر، فهناك أيضاً لن يصدقوا حكاياتك عن الجبل والوادي، والناس التي لم تر نهراً أو بحراً أبداً، ولن يطول الوقت حتى يتجمع حولك الصغار بحجارتهم، والكبار بتندرهم.. استطالت الكلمات كعتمة ليل لا ينتهي، وشق علي أن أحتمل صدى صوتها بين رؤوس الجبال، وقعر الوديان لولا تمرد فكرة في رأسي المضطرب..، قمت بتنفيذها على الفور.. على ورق المدرسة الرخيص دوَّنت ما علق بذهني مما رأيت، كما تدوّن قصص الخيال والروايات.. - أتندهشين مما أفعل يا جدة؟ أظن أن لكل شيء هيئته الأسطورية بين منحنى الادعاء المضطرب، واستقامة الصدق العجول، وبلاهة الإيمان.. ربما سأحشر كتاباتي يا جدة في قوارير زجاجية مغلقة لتسير مع مجرى النهر والبحر.. وصولاً إلى منتهى التقاء السماء بالأرض.. لعل مجنوناً آخر يعثر عليها، فتغتنمه سعادة وجود من يشاركه جنونه، وقد تكتنفه شجاعة الرسل بما يكفي لوضع قصته بقارورة تبلغني مع ريح الشتاء الثلجية.. ربما يا جدتي المنفية في كهف، سنتفق بعدها أنا والمجنون المفترض على موعد لقاء.. وقد تتكاثر القوارير كتكاثر الأنبياء في العصور الغابرة.. وتصبح أكثر من السمك، وما تحمله الريح من بذور لقاح، فلا يحصي صياد سمكة إلا مع قارورة أو ثلاث.. ولا تهب عاصفة إلا ومعها قوارير المجانين.. قد نغدو شعباً من صنّاع القوارير، نقيم في كل مكان مهرجانات تتناثر كأوراق خريف، وتتناغم مع الفصول.. قد نتجمع في جزيرة غوانتانامو دون حراسة مشددة، وبرغبتنا المحض.. وقد يعدو هذا محض هلوسة مني يا جدة..، أو نضوج مبكر لجنوني، قبل أن يكتشفه رفاقي الصغار، وكبار القرية..، قبل موعد رجمي بحجارة كإبليس من جموع الحجيج.. - ماجدة الغضبان