ها قد وصلنا للمرحلة التي تصبح فيها الأفكار والقناعات والثقافة العامة عاملا مهما ومحوريا في التنمية والاقتصاد. الاقتصاد الريعي السابق والمعتمد كليا على النفط لا يحتاج لوعي ثقافي جديد بل ربما يكرس المحافظة التقليدية ويجعلها نمطا سائدا في المجتمع الذي يمكن وصفه في ظل الاقتصاد الريعي بأنه مجتمع ثري ومحافظ تقليدي، وهي معادلة تتسبب في الكثير من التعقيدات والظواهر الاجتماعية غير الطبيعية (الثراء مثلا لا يجعلك تغمد كثيرا في ملف قيادة المرأة للسيارة لأنك ببساطة تستطيع الاستعانة بسائق أو أكثر وقادر على توفير مرتبه الشهري وتكاليف استقدامه وسكنه وإعاشته). لقد حول الاقتصاد الريعي السعوديين إلى مكائن صرف أكثر من كونهم مكائن إنتاج، هذا الصرف غالبا ما يتم في الخارج لأنه يمنح الأفراد مساحة أكبر للاستمتاع والترفيه والبحث عن السعادة، والأجساد التي تكتظ بها المطارات السعودية وهي تسافر للخارج كلما سنحت فرصة هي أيضا أكوام من المال المحمول معهم إلى الخارج حتى أصبح الريال السعودي لا يدور داخليا وبالتالي فلا يؤمن دورة اقتصادية سليمة، وتلك كارثة اقتصادية كبرى. تلك الريعية أيضا لا تجعلك تفكر في بناء وتعزيز قيم المدنية والانفتاح التي تدعم الاقتصاد والتنمية وتحافظ عليهما، بل ربما ذهب المال والثراء ليكونا عاملين يقفان في وجه أية مشاريع تستهدف تعزيز الانفتاح والحريات والاهتمام بالفنون وتوفير الترفيه وعوامل الاستمتاع بالحياة، حدث ذلك وصمتنا عنه، ورأينا ذلك الذي ينزل من سيارته الفارهة ذات الدفع الرباعي ويشارك في حفلة تكسير الاَلات الموسيقية ويعود بعد ذلك لمنزله الفخم. الآن وصلنا للمرحلة التي نسعى فيها بكل جدية للخلاص من الريعية وبناء واقع اقتصادي وتنموي جديد وهذا يستلزم التأكيد على أن أي تحول اقتصادي تنموي يحتاج لمزيد من الانفتاح والتغيير الثقافي، وهو تغير طبيعي ومألوف وفي بعض الأحيان يمثل حقا أصيلا، فالقادرون على دفع رواتب للسائقين في منازلهم لن يعودوا كذلك وبالتالي فلا يمكن منازعتهم في حقهم الأصيل بأن تقود كل أم سيارتها وتتولى إيصال أبنائها للمدارس، والقادرون على السفر سنويا في الصيف لن يعودوا كذلك وبالتالي فلا يمكن منازعتهم في حقهم أن يعيشوا واقعا ترفيهيا راقيا ومنظماً في أي منطقة من مناطق بلادهم، وهكذا. في الواقع إن ما يحدث الآن من هجوم على الفعاليات القادمة من حفلات غنائية وفنية وما يحصل الآن من تجييش في مواقع التواصل الاجتماعي ضد مشروع افتتاح دور السينما ليس إلا نتيجة للواقع الريعي السابق وللأفكار التي تجذرت والتخويف الذي استشرى في المجتمع من هذه الممارسات الطبيعية في كل بلدان الدنيا، وهذه المواجهة التي في الغالب لن تسفر عن تعطيل لأي قرار تنموي إلا أنها تربك علاقة الناس بهذا الواقع الجديد وتؤدي لتأزم في علاقتهم معه، وتستخدم مناورات سطحية على مستوى اللغة والعاطفة مثل؛ لا للسينما في بلاد الحرمين (واسمها ليس كذلك بل هي المملكة العربية العربية السعودية، والحرمان أبرز وأشرف معالمها ومسؤولياتها) والربط بين ما يحدث في الحد الجنوبي وبين هذه الفعاليات، (أشيد هنا برد سماحة المفتي العام على أحد المتصلين في برنامج تلفزيوني مباشر حين قال: كيف تقام هذه الحفلات ولدينا اضطرابات في جنوب المملكة، فأجاب سماحته: بل لدينا استقرار وأمن بفضل الله ثم بجهود القيادة). لكن هل لكي تنجح تلك الفعاليات وتلك التوجهات الجديدة لا بد من تغيير الأفكار والمواقف لدى الجميع وبناء رأي جديد؟ الجواب بالطبع: لا. فليست قضية الدولة كيف يفكر الناس بل كيف يتصرف الناس. وبالتالي المضي قدما في هذا التوجه الجديد وتقديمه كخيارات جديدة في الحياة اليومية؛ فالهيئة العامة للترفيه لن تسير سيارات دورياتها لإجبار الناس أو حثهم على حضور تلك الفعاليات أو النداء عبر مكبرات الصوت في الأماكن العامة: ويكند يا عيال.