كنت قبل أيام في ضيافة المحامي المعروف الأستاذ أحمد الخالد السديري. اللقاء ضم نخبة من القانونيين والمثقفين والمتخصصين في شتى المجالات، وفي لقاءات كهذه عادة ما تدور النقاشات حول مواضيع تعكس اهتمامات الحضور، وهذ ما حصل، إذ تم التطرق لأهم قضايا الشأن العام المحلّي بدءا بالميزانية والمتغيرات المالية، ومروراً بالمستجدات الاقتصادية والسياسية العسكرية، وانتهاء بأبرز اهتمامات المجتمع والقضايا ذات الطابع الشرعي؛ خصوصا الخلافية منها؛ ومن أبرزها قضية تجاوز عمرها الآن 31 عاما؛ أي منذ صدور فقرة (تفسيرية) جدلية في اللائحة التنفيذية لهيئة الأمر بالمعروف، تدعو إلى (التأكُّد من غلق المتاجر والحوانيت وعدم مزاولة البيع وقت الصلاة). الموضوع الأخير هو ما جعلني أستحضر هذا الملف الشائك الذي سبق لي أن كتبت عنه مقالا في هذه الجريدة قبل نحو عامين ونصف وكان بعنوان: (الخلاف حول إغلاق المحلات.. ألا يُبِّرر إعادة النظر؟)، وتلقيت حوله آنذك الكثير من ردود الأفعال المؤيدة والمعترضة؛ الأمر الذي يؤكد وجود حاجة مُلِحّة لفتح هذا الملف مجدداً الآن؛ خصوصا بعد أن تأكّدتُ من أن إغلاق المحلات لا يتّكئ على سند قطعي الدلالة ولا على مسوِّغ نظامي خال من العوار القانوني، علماً بأن استمرار هذا الوضع في أسواقنا منذ أكثر من ثلاثة عقود؛ أدّى لأضرار اقتصادية لا يمكن إنكارها، ومصاعب اجتماعية جمّة للكثير من المواطنين الذين يرتادون الأسواق. وفي ظل المعطيات السابقة، فقد سألت مُضيفي عن رأيه (القانوني) في مدى شرعية ونظامية إغلاق المحلات وقت الصلاة؟، وما إذا كان يعتقد أن هناك إمكانية لإعادة النظر في الموضوع؟، خصوصاً ونحن نعايش حاليا مرحلة مختلفة؛ نخوض فيها غمار تحوّل وطني كبير، ونقوم بمراجعة الكثير من التابوهات التي تمسّكنا بها طويلاً؛ بعد أن ثبت لنا أخيراً عدم صحة العديد منها، لنكتشف متأخرين وجود حاجة ماسّة لتغييرها، ويبدو أن سؤالي قد وجد وقعا جيداً في نفس الأستاذ السديري الذي نصحني بقراءة دراسة قانونية شرعية مطوّلة؛ سبق له نشرها في جريدة الرياض وحملت عنوان: (الشرع وقفل الأسواق وقت الصلاة: دراسة فقهية). المفاجأة التي كانت بانتظاري بعد فراغي من قراءة الدراسة المهمة والشاملة هي احتواؤها على كثير من الحُجج النظامية والدفوع الشرعية التي سأتطرق إليها لاحقا، والمؤكّدة لعدم قانونية أو شرعية إغلاق المحلات في أوقات الصلاة، وهذا بدوره يجعلني وغيري من المواطنين؛ خصوصا أصحاب الأعمال منهم، نتساءل عن أسباب تمسُّك (الهيئة) بموقفها في هذا الشأن؟، وما إذا كان لديها من الأدلة الشرعية (قطعية الدلالة) ما يُبرِّر تعطيل الحركة التجارية في البلاد وتأخير مصالح العباد؟، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهادا حَسَن النيّة؛ يمكننا كمجتمع مراجعة الهيئة فيه، وكلّنا ثقة في وعي رئاستها واستعدادها لإعادة النظر في الأمر؛ متى ما توافّرت القناعات اللازمة لتغيير الوضع الحالي. وفيما يلي أبرز الأسباب التي تدعوني وكثيرين غيري من المواطنين أن نضم أصواتنا لصوت المحامي أحمد السديري في مطالبة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التكرُّم بإعادة النظر في موضوع إغلاق الأسواق وقت الصلاة، ومن أبرز تلك الأسباب ما يلي: 1. أن إغلاق المحلات التجارية خلال أوقات الصلاة هو إجراء (مُستحدث) لم يأتِ به نص في القرآن أو السنة؛ باستثناء الآية الكريمة الخاصة بصلاة الجمعة، وأن الإغلاق الحاصل لدينا منذ عقود هو مجرد تفسير من (الهيئة)؛ بدون دليل نقلي أو عقلي عليه. 2. أن الأحاديث التي يستند إليها دعاة الإغلاق هي أحاديث مرسَلة وواهية الأسانيد، ويقابلها أحاديث صحيحة؛ نصّت على (جواز) الصلاة في أي مكان وعلى تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد ومنها حديث: (أوتيتُ ما لم يؤتَ الرسل، جُعلت لي الأرض مسجداً طهوراً فأي رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصَلّ). 3. عدم وجود أدلة تشير إلى أن إغلاق المتاجر وقت الصلاة كان سارياً؛ سواء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في فترة الخلفاء الراشدين، كما لم تقم الدول الإسلامية المتعاقبة بإلزام الناس بذلك، خصوصا في عهد الخلافتين الأموية والعباسية. 4. أن جميع كبار أئمة الأمة وفقهاء المذاهب الإسلامية لم يفتوا بإغلاق المحلات وقت الصلاة، كما أن جميع الدول الإسلامية لا تُلزِم مواطنيها أو المسلمين المقيمين فيها بتعطيل معاملاتهم ومصالحهم، و(إجبارهم) بالقوة على التوجه للمساجد لأداء الصلاة. 5. أن الإغلاق لم يأتِ إنفاذا لأمر صادر من ولي الأمر، كما أن نظام (الهيئة) الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم (أ/37) والصادر بتاريخ 26/10/1400ه، خلا من أي نص يقضي بإيقاف الأعمال في البلاد وقفل المحلات وقت الصلاة. 6. أن ما يحدث من إغلاق يتم بناء على الفقرة الثانية من المادة (1) في اللائحة التنفيذية للهيئة الصادرة في 24/12/1407ه، وهي فقرة خالفت نظام الهيئة ذاته كونها استحدثت أمرا لم يرد في النظام الذي لم ينص صراحة أو ضمنا ولا حتى تلميحا بوجوب إقفال المحلات وقت الصلاة. 7. أن عدم إغلاق المحلات وقت الصلاة لم يمنع انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا بفضل الله؛ سواء في الماضي أو في وقتنا الحاضر، وخصوصا في الكثير من الدول غير الإسلامية التي لا تقيم أساساً شعائر الإسلام؛ ناهينا عن إقفال محلاتها وقت الصلاة!. 8. أن إغلاق المحلات وقت الصلاة، قد يتسبب في تذمُّر الناس وإحراجهم وتضييع مصالح بعضهم كالمسافر والمريض؛ لذلك ينبغي الموازنة بين إقامة الصلاة، وبين المصالح المرسلة للبلاد والعباد والتي تستلزم الأخذ بالرخص الشرعية المعروفة. 9. وجوب التفريق في الحكم الشرعي بين إغلاق المتاجر من أجل إقامة الناس في صلاة الجماعة في أول وقتها؛ وهو أمر لا دليل عليه، كما سبقت الإشارة، وبين إقامة صلاة الجماعة في الناس؛ وهي سنة مؤكدة، وواجب في أقوال أخرى، وهو أمر تحرص الدولة على الالتزام به. 10. ضرورة التدبُّر في الحكمة من حرص الشارع -عز وجل- على تحديد نطاق زمني شرعي لتوقيت دخول وخروج الصلوات الخمس، وهو ما يتنافى مع إجبار الناس على إقامة الصلاة جماعة (في بداية دخول وقتها).