أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس المسلمين بتقوى الله والاستعصام مِن التَّقْوى بِالعُرْوَةِ الوُثْقى، فَلِلَّهِ مَا أزْكَى مَغَبَّاتِها، وأهْنَى ثَمَرَاتِهَا، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ). وقال في خطبة الجمعة التي القاها يوم أمس في المسجد الحرام أيها المسلمون: في هذه الآونة التاريخية، تعيش أمتنا الإسلامية فتناً حالكة، وعواصف مِن المآسِي هالِكة، اختلفت ضروبها، واستحرت كروبها، وغدت كعارِض منهمر، وبرقٍ مستمر. أملت على المسلمين التدبر والاستِعبار، وعِلاجها بِأوفق مسْبَار، ولكن في حِكمَة واقْتدَار. ومن أنْكَى تِلْكُم الفِتن في الأمةِ وملتها، ووحدتِها وألفتها: فِتْنَةُ انحراف الفُهوم والعُقول، وتَأوِيل النُّصوص والنُّقول إلى غير المُرَادِ واللاَّ معقول، من قول الباري –تبارك وتعالى- وقوْل الرَّسُول، ومنهج السَّلف، وخير الخَلف –رحمة الله عليهم-. لِذلك كانَ الفَهْم الوثيق والإدْرَاك المتين الدَّقيق، للوَحْيَيْن الشريفَيْن، مِن أزكى مِنَنِ البَارِي وأسْنَاها، وأجَلِّ حَصَائِدِ العلوم وأغْلاها، وأَحْمَدِ وَسَائِل الاسْتِنْبَاط وأزكاها، بِهِ يَسْمُو صَاحِبُه، وتَجِلُّ مَنَاقِبُهُ، وتَنْبُو عَنِ الفَرَطاتِ عَوَاقِبُهْ، أمَا اخْتَصَّ المولى -سبحانه- بالفهم الرَّجيح نَبِيَّهُ سُليْمَان -عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصَّلاة والسَّلام- في قوله تعالى (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان، وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)، وأرْشَدَ أمِيرُ المؤمنين عُمرُ بن الخطاب في كتابه لأبي مُوسى لِلُزُوم الفَهْمِ وصُوَاه، في قولٍ ما أجَلَّ فحْواه:"الفَهْم الفَهْمَ فيمَا أُدْلِيَ إليك"، وفي الحديث عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه هل عندكم كتاب قال لا إلا كتاب الله أو فهم أُعطيَه رجل مسلم، الحديث خرجه البخاري وأهل السنن. ومَا ذلِك إلاَّ لِأَنَّ آثار الفَهْم في مُعْتَرَكِ الاخْتلاف مُسَدَّدَةٌ مَضْمُونَة، وقُصُودُه في مَعَاضلِ التَّرْجيح رَاسِخة مأمونة، يقضي لتحقيق السَّعَادتين، ونَيْلِ الحُسْنَيَين. وأضاف يقول إخوة الإيمان: ومِن بَدَائع العَلاَّمَةِ ابن القيِّم –رحِمهُ الله- قوله: "وصِحَّةُ الفَهم نُور يَقْذِفُه الله في قلب العَبْدِ يُمَيِّزُ به بَيْن الصَّحِيح والفاسِد، والحقِّ والبَاطل، والهُدَى والضَّلال، والغيِّ والرَّشاد" إلى أن قال: ولا يَتَمكَّنُ المُفْتِي ولا الحاكم مِنَ الفتوى، والحُكْم بِالحَقِّ، إلاَّ بِنَوْعَيْن مِن الفَهْمِ: أحدُهما فَهْمُ الوَاقع والفِقْهِ فِيه، والثاني فَهْمُ الواجِبِ في الوَاقع، وهو فَهْمُ حُكم اللهِ الذي حَكَم بِهِ في كِتابِه، أو على لِسَانِ رسوله" انتهى كلامُهُ –رَحِمه الله-، لِأَنَّ صِحَّة الفَهم، وحُسْنَ القَصْد، سَلامَةُ للدِّين والذِّمَمْ، والأحكام والقِيَمْ، وانْطلاَقٌ بالأُمَّة وأمْنِها وَوَحْدَتِها، صَوْب السَّبِيل الأرْشدِ الأَمم. وواصل يقول أيها المؤمنون: وقد كان الاختلاف في فهم النصوص وتفسيرها أرضًا خصبة في بيان سعة الشريعة ومرونتها، وبرهانًا ساطعًا على يسر الدين وانسجامه مع المتغيرات ورعايته للمقاصد النيرات وتحقيقه للمناط في النوازل والمستجدات، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال لأصحابه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة" فاختلفوا رضي الله عنهم في فهم ذلك على رأيين أقرهما المصطفى، وكذا في جملة من المسائل والفروع عدها أهل العلم من اليسر والسعة التي لا يعيب فيها أحد على الآخر على ضوء القاعدة التيمية الذهبية رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وقد بوب البخاري رحمه الله باب الفهم في العلم، كل ذلك شريطة أن يكون الفهم على مقتضى النصوص الصحيحة والمقاصد الصريحة وأن يكون المتحلي به من أهل العلم المعتبرين، وكفى بذلك مكانةً لروح الشريعة في نفوس المكلفين.