وليد ابو مرشد تناقض المتشددون في إصدار الأحكام والفتاوى الشرعية حول القضايا المستجدة -خاصة أو عامة-، وتحديداً في بعض القنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت؛ ترك انطباعاً مشوشاً بين من يحلل أو من يحرم، وبين من يتوقف، أو تراجع عن قوله، وربما اعتذر، وفي كل الأحوال كان الأفضل أن تكون مرجعية الفتيا في القضايا والمسائل العامة لهيئة كبار العلماء، وهي الجهة المخولة رسمياً، والأكثر تأهيلاً في مراعاة الثوابت والمتغيرات، وقواعد الاجتهاد. وقد أُبتلي مجتمعنا بوجود بعض من يُصدرون فتاوى شرعية تتعلَّق بالعديد من المسائل المُستجدة على الفرد، والمجتمع بشكل عام، ثمَّ لا يلبثون أن يُناقضوا أنفسهم برفضها أو التهرب منها، أو بالتراجع عنها -وهم قلّة-، الأمر الذي يجعل من يتقيدون بها يقعون في حيرةٍ كبيرةٍ من أمرهم، ومن ثمَّ يفقدون الثقة بمُصدِّري تلك الفتاوى مستقبلاً. وقديماً صدرت فتاوى بتحريم تعليم الفتاة، ثمَّ حُرِّم استخدام جهاز رسائل البرقية، والراديو، والتلفزيون، مروراً بجهاز الفيديو، وكذلك أجهزة استقبال القنوات الفضائية، وأخيراً تحريم الهواتف المحمولة المزودة بالكاميرا، قبل أن تُصبح تلك الأجهزة جزءاً لا يتجزأ من حياة الذين حرَّموها من قبل. وأجمع عدد من المختصين على أنَّ هؤلاء يتسببون في إحداث تناقض وجداني خطير لدى الناشئة، والشباب، بشكل خاص؛ بسبب الاختلاف العميق بين ما يسمعونه منهم، وما يشاهدونه من مظاهر حياتهم في الواقع، كما أنَّهم يعملون على تشتُّت أفكارهم، مُضيفين أنَّ تصرفاتهم تلك تُحدث شرخاً عميقاً في ثقافة وتفكير الفرد والمجتمع، كما أنَّها تُسبِّب خللاً في التكاتف الأسري والمجتمعي، وتُعرقل التنمية والإنتاج، وتظهر الدين الإسلامي وكأنَّه دين صراعات، ودين يتناقض ويتعارض مع العلم والتقدّم والتطوّر، مُوضحين أنَّ التناقض في الفُتيا يصدر عادةً من أناس غير مؤهلين تأهيلاً علمياً يجعلهم قادرين على إصدار تلك الفتاوى. تأصيل علمي وبين "د.عبدالعزيز قنصل" - أستاذ العقيدة بجامعة الملك خالد بأبها - أنَّ التناقض في الفُتيا يصدر عادةً من أناس غير مؤهلين علمياً، مُضيفاً أنَ من تخرَّج من الأقسام الشرعية في الجامعات أو حفظ القرآن، ليس بالضرورة أن يكون مُفتياً من حقه التحليل، والتحريم، مُوضحاً أنَّ الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصين كل الحرص على الابتعاد عن إصدار الفتاوى؛ خشيةً من أن يقولوا على الله ورسوله ما لا يعلمون، وعلى عكس ذلك فإنَّ هناك من تساهل في إصدار الفتاوى، ونشرها، في وقتنا الحالي، على الرغم من أنَّ النصوص الشرعية قائمةً على التأصيل العلمي الكاف، إذ حرَّم الله سبحانه وتعالى القول عليه بغير علم، سواءً فيما يتعلَّق بالفُتيا، أو القضاء، وجعل ذلك من أعظم المحرمات، حيث قال الله تعالى:"ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إنَّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، متاع قليل ولهم عذاب أليم". وأضاف أنَّ جِديَّة المسائل التي يتصدى لها المُفتون من الأمور الجديدة، التي لم يتَّضح خيرها من شرها بعد، حيث تأتي العجلة قبل التحقّق والتروّي، مُوضحاً أنَّ عدم وجود نصوصاً شرعيةً في هذه المسائل بحيث تنص عليها صريحة بالحِل، أو الحُرمة، لا يعني أنَّها جميعها شر، أو أنَّها كُلَّها خير، مُشيراً إلى أنَّ المطلوب هو التيسير، بأخذ خيرها، وترك شرَّها، لافتاً إلى أنَّ العالِم الذي يُفتي برأيه، ويكون اجتهاده صائباً فله أجران، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد، وعليه أن يُبين أنَّ فتواه اجتهادية، وليست ضمن نص شرعي، مُبيناً أنَّ بعض طلبة العلم كانوا يُفتون بحُرمة الأمور المُستجدة على المجتمع احتياطاً؛ وذلك من باب سد الذرائع، أو لأنَّ كل شيء في الحياة له مضار، وله مفاسد، ومصالح. أمور مستجدة وقال "إسماعيل الجهني": "إنَّ الفتاوى في الماضي كان يتم تداولها بسرعة كبيرة بين أفراد المجتمع الواحد، وذلك حرصاً منهم في عدم إتيان ما يتعارض مع مبادئ الدين الإسلامي قولاً وعملاً"، مُضيفاً أنَّ غالبيتها كانت تُحرِّم ما يستجد على المجتمع من ظواهر دون التثبُّت من الآثار التي من الممكن أن تعود على الفرد، والمجتمع جرَّاء ذلك، مُستشهداً بالعديد من الفتاوى، ومن بينها تحريم التصوير باستخدام كاميرا "الجوَّال"، مٌشيراً إلى أنَّ ذلك بات اليوم من الأمور التي لا غِنى عنها لتوثيق أهم المناسبات، والأحداث اليومية، على صعيد الفرد، والمجتمع. أفتى وتراجع! وبيَّنت "هادية القرني" أنَّها كانت في وقتٍ مضى حريصةً كل الحرص على التقيُّد بتنفيذ الفتاوى التي تسمعها، أو تلك التي كانت مكتوبة، والصادرة من بعض المشايخ عبر وسائل الإعلام المختلفة، مُضيفةً أنَّها تخلَّت عن العديد من الأمور التي كانت تمارسها على صعيد حياتها الشخصية نتيجةً لذلك، مُستدركةً أنَّها عندما لاحظت تعدُّد الجهات، والأشخاص الذين تصدر عنهم تلك الفتاوى، وتناقض بعضها مع البعض الآخر؛ بدأت في التروّي قبل الانسياق وراء كل فتوى تسمعها، أو تقرأ عنها، مُشيرةً إلى أنَّ هناك من أفتى بحُرمة تعليم الفتاة، قبل أن يعود ويتراجع عن ذلك، كما أنَّ هناك من أفتى بجواز سماع الأغاني، ثمَّ عاد وتراجع بعد فترة من إصداره تلك الفتوى!. قناعات خاطئة وأكَّد "د.مضواح بن محمد آل مضواح" - مدير الإصلاح والتأهيل بسجون عسير، وباحث في علم الجريمة والعقوبة - على أنَّ الفرد عندما يعتنق قناعةً خاطئة، مبنيةً على أسس غير صحيحة، فإنَّ التشتّت، واضطراب المواقف، والعصبية، والانفعال، من الأمور التي من الممكن أن تسيطر على حياته وسلوكه، وذلك لأن قناعته تلك، والأسس التي اعتمد عليها، تتناقض مع الحقيقة، والواقع، وتتعارض مع انسيابية الحياة في المجتمع، مُضيفاً أنَّ الأفراد تبعاً لذلك ينقسمون إلى قسمين، القسم الأول يقعون في هذا المأزق؛ بسبب جهلهم واندفاعهم دون تفكير، مُشيراً إلى أنَّ عودتهم إلى جادة الصواب، وتغيير قناعاتهم في هذه الحالة أمر إيجابي ومحمود، أمَّا القسم الثاني فإنَّهم يوقعون أنفسهم في هذا المأزق عمداً؛ لتحقيق مكاسب شخصية، وبالتالي فإنَّهم متى ما حققوا أهدافهم، بدأوا في تغيير قناعاتهم بشكل تدريجي؛ حتى تتلاءم مع أوضاعهم الجديدة، مٌبيناً أنَّهم لا يُغيرون قناعاتهم بشكل نهائي، بل يُبقون عليها، كالجذوة تحت الرماد؛ بقصد إشعالها عند الحاجة إليها في المستقبل، وذلك عندما يتغيّر شيء من الامتيازات التي حققوها من وراء ذلك، لافتاً إلى أنَّ هؤلاء لا يتقبَّلون النقد أبداً أثناء اعتناقهم لهذه القناعات. مصالح غير مشروعة وقال إنَّ القسم الأول مُصابون ب"الديماغوجيا" التي تجعل الشخص أسيراً لقناعاته فيدافع عنها دونما تفكير، لكونه يعتبرها صحيحة مطلقاً نتيجةً لجهله، أمَّا القسم الثاني فهم لا يتقبلون النقد؛ لأنَّهم يدافعون عن مصالحهم، على اعتبار أنَّه إذا ما تمَّ نقض الأسس التي حصلوا بموجبها على تلك المصالح، فإنَّ هذه المصالح تكون غير مشروعة. وأضاف أنَّ كلا الفريقين يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، لأنهم في كل الأحول يتسببون في إحداث تناقض وجداني خطير لدى الناشئة، والشباب، بشكل خاص؛ بسبب الاختلاف العميق بين ما يسمعونه من هؤلاء، وما يشاهدونه من مظاهر حياتهم في الواقع، كما أنَّهم يعملون على تشتُّت أفكارهم، ويشغلونهم بما يضرهم ويضر مجتمعهم، ويحدثون الفتنة، والشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة، ومن ثمَّ يتسببون في خلق بيئة اجتماعية مناسبة لنشوء الصراعات، وغيرها من السلوكيات السلبية، لافتاً إلى أنَّ هذه التصرفات تُحدث شرخاً عميقاً في ثقافة وتفكير الفرد والمجتمع، كما أنَّها تُسبِّب خللاً في التكاتف الأسري، والمجتمعي، وتُعرقل التنمية والإنتاج، وتظهر الدين الإسلامي وكأنَّه دين صراعات، ودين يتناقض، ويتعارض مع العلم، والتقدم، والتطور، وتُشوّه سمعة الإسلام، والمسلمين، وتجعلهم في آخر ركب مسيرة الحضارة بين الأمم. وأشار إلى أنَّ معالجة هذه السلبيات ستستغرق وقتاً طويلاً؛ بسبب ما خلّفته من أمور سلبية على مستوى الفرد، والمجتمع، داعياً الجهات المعنيَّة إلى معالجة الوضع على الأصعدة الدينية، والثقافية، والتعليمية، والعلمية، وإلى إعادة تقييم المناهج التعليمية، ووضع ضوابط أكثر دقَّة فيما يتعلق بعملية القبول في الجامعات، ووضع حلولاً ناجعةً لمشكلات البطالة، والفقر، والصحة، وكافة الظواهر السلبية التي قد يستغلها أعداء الوطن، ممن اتخذوا الدين مَطيَّة لتحقيق مآربهم!. التثبت والتحري ودعا "د.نزار الصالح" -أستاذ علم النفس بجامعة الملك سعود- إلى تحري المصداقية في القول والفعل، حيث أن القدوات في المجتمع يتبعهم العامة ويصدقون أقوالهم، ولكن حينما يكون هناك تناقض في الأقوال لدى القدوات فإن العامة يصابون بنوع من الحيرة والتذبذب؛ مما يجعلهم يشعرون بالضياع والاضطراب النفسي، ويفقدون العلاقة التي تربطهم بقدواتهم، وهذا مما يجعل الناس يبحثون عن أشخاص آخرين للحصول على المعلومة، وهنا يكون الوضع غير سليم وغير آمن، بحيث أن الأشخاص الآخرين ربما يكونون أقل علماً لكنهم يتصدرون المجالس ووسائل الاعلام المختلفة، ويوجهون العامة في أمور كثيرة ربما تكون خاطئة وغير موافقة لشرع الله. وقال إن الحرص على التثبت والتحري والبعد عن الأقوال الشاذة يحفظ وحدة المجتمع، ويزيد من ترابطه، وأمنه، لذا لابد من زيادة الوعي في المجتمع، وتوفير المعلومة الصحيحة فيما يتعلق بالناس، مما يجعلهم أكثر اطمئناناً وثقة بصحة وعدم تضارب الأقوال؛ لأن ذلك ينعكس ذلك على سلوكياتهم وراحتهم النفسية مع حالة الرضا الشعبي والبعد عن الأمور الخلافية. وأضاف:"هنا ربما يأتي دور هيئة كبار العلماء، والمشايخ المشهود لهم بالعلم والدراية والخبرة في توضيح الأمور التي تهم العامة، وسرعة نشر المعلومة الصحيحة الموثقة من الكتاب والسنة، بحيث يشعر أفراد المجتمع بالطمأنينة لمصدر المعلومات"، مشيراً إلى أن الجهات الشرعية عليها استثمار شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت في متناول الغالبية من الناس؛ للتواصل معهم، ونشر المعلومات الصحيحة الموثقة؛ مما يزيد من رفع المستوى العلمي والثقافي في القضايا الشرعية، بحيث ينعكس إيجاباً على الراحة النفسية لأفراد المجتمع.