غبت عن نجران مسقط راسي ومنبت أجدادي ثلاثين سنة عشتها متغربا بين أمريكا والرياض وأبها إلى أن عدت إليها متقاعدا عن رحلة الغربة الطويلة والعمل الشاق من أجل الوطن. لأصوم رمضان لأول مرة منذ ثلاثين سنة بين أهلي وأحبابي وبقرب والدتي التي ودعتها ذات يوم شابا صغيرا في الثمانينات الميلادية ودموعها تترقرق في عينيها المليئتان بتعابير البراءة والأصالة والأمومة والوداع وعدت إليها وقد بلغ بها العمر سنوات الشيخوخة والمرض التي جعلتها لاتعرفني سوى بالإشارات المليئة بالحزن وغزارة المحبة برغم أنني خلال السنوات الثلاثين لم انقطع عنها وأزورها من وقت لآخر. لرمضان في نجران روحانية لاتشبهها روحانية أخرى، حيث يغمرني الإحساس المهيب والشعور الإيماني العميق وأنا بقرب شهداء الأخدود الذين سطروا بإيمانهم أعظم قصص الاستشهاد في سبيل حرية الإنسان وحقه أن يؤمن ويتعبد كيفما ينسجم إيمانه مع طمأنينته ويقينه إلى أن ارتقى بي ذلك الشعور إلى تذكر الحديث النبوي الذي يقول بقدسية نجران ضمن المدن المقدسة كمكة والمدينة والقدس، كونها ينزل عليها سبعون ألف ملك في الليلة الواحدة تقديسا لأرواح الشهداء الذين اختاروا الاستشهاد النقي دفاعا عن الحرية وبديلا عن الحياة الذليلة والرخيصة التي حاول ذو نواس اليهودي أن يشتريها منهم. لأتيقن حقا بقدسية هذه المدينة المدهشة في روحانيتها وفي هيبتها المنعكسة عبر عملقة جبالها الصلبة وتسامي نخيلها الباسقات وشذى بساتينها التي تبث عطورا زكية تتخيل وأنت تسير وسط أجواءها وكأنك تشم روائح بساتين الجنة. بل أنني أتخيل في أجواءها المفعمة بالإيمان الخالص صورة ذلك القس النجراني المسيحي المؤمن قس ابن ساعده وهو يخطب ببلاغته العظيمة ليخاطب عقول الناس بما يجعلهم يدركون الله بعقولهم وليس بعواطفهم ولأتذكر ترحم رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم على قس بن ساعده مما يزيدني إيمانا ويقينا بأن الأديان تصب جميعها في نهر إيمان واحد باتجاه توحيد الخالق الأحد وان ما يفرق بين الناس ليس إلا رأيا قاصرا لعقل ضيق التفكر والتأمل. اشعر وسط هذه الأجواء الرمضانية النجرانية وكأنني في قاهرة المعز أيام الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الذي بنى مدينة القاهرة وأسس الجامع الأزهر كأحد أهم المنابر الإسلامية وكرمز للتعددية الدينية والمذهبية التي عاش فترتها المسلمون واليهود والمسيحيون كل يمارس حرية دينه بما يحقق له الطمأنينة الإيمانية التي عن طريقها يشعر الإنسان انه شكر الله وعبده ليكسب رضاه ومحبته، وكذلك عاش المسلمون تلك الفترة بمختلف مذاهبهم دون قسر من احد على الآخر برغم أن الدولة فاطمية والمذهب إسماعيلي. شعرت في نجران بأجواء قاهرة المعز الفاطمية، حيث الأغلبية هنا من المذهب الإسماعيلي الفاطمي، يتعايش معهم أتباع المذهب الوهابي والمذهب الزيدي والمذهب الشافعي الذين يعيشون هنا كأبناء لبلد واحد، يذهب النجرانيون إلى مساجدهم وجوامعهم قبل صلاة المغرب ومع كل واحد منهم قهوته وعدة تميرات وبعض حبات السنبوسة، يفطرون بشكل جماعي وسط أجواء هادئة وخاشعة لا تسمع غير صوت المؤذن بدون آلة المايكروفون وبعد إفطارهم يؤدون صلواتهم جماعة يؤمهم الإمام ويقرأ في صلاته غير جاهر بها أكثر من حدود من يصلي معه ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) ثم يواصلون وقتهم في المساجد والجوامع يصلون صلوات التراويح (فرادى) وعندما تحين صلاة العشاء يؤدونها جماعة ثم يذهبون إلى بيوتهم لتناول بقية فطورهم مع عشاءهم ويعود بعضهم إلى المسجد أو الجامع ليستمروا في أداء الصلاة المأثورة وصلاة الليل إلى صلاة الشفع والوتر وحتى صلاة الفجر. تسمع مؤذني المساجد السلفية وأئمتها وهم يؤدون الصلوات بتراويحها عبر المايكرفونات من جهات متعددة، وبرغم ضخامة الصوت المنبعث عبر المايكروفونات وحدته التي تغطي مساحات بعيدة عن المسجد المنبعثة عنه إلا أنني لم أرى إسماعيليا نجرانيا يبدي انزعاجه وتذمره وكأن احترام الناس هنا لحرية الآخر في التعبد جزء من ثقافتهم المتجذرة منذ أن رفض أهل الأخدود أن يغيروا دينهم تحت تهديد وإحراق ذو نواس اليهودي لهم وحتى عصرنا الحاضر الذي يشهد أعظم دعوات لتحرير الإنسان من كل القيود التي تمنعه أن يعبر عن نفسه كيفما يريد دينا وفكرا ومعتقدا! فبرغم الارتفاع الواضح لأصوات ميكرفونات المساجد الرسمية وبرغم عدم تقيد أئمة تلك المساجد بقرارات وزارتهم للشئون الإسلامية وبرغم ما تتركه تلك المايكروفونات من اثر مزعج للذين يكونون خارج تلك المساجد سواء في مساجد المنطقة ذات الأغلبية الإسماعيلية التي لا تضع ميكرفونات في مساجدها أو الذين يقبعون في منازلهم كمرضى أو أطفال أو غير ذلك، إلا انه يدهشك هذا الاحترام من النجراني لكل من يختلف معه دينا أو مذهبا. بل أنني استغربت حينما رأيت بعض النجرانيين يقدم الغذاء والماء لبعض العمال الهندوس والمسيحيين وغيرهم من غير المسلمين، حينما شاهدوا أن أولئك العمال يخافون أن يشربوا ماء أو يأكلوا غذاء في نهار رمضان وهم ليسوا صائمين لكنهم خائفين أن ينالوا عقابا. لكن النجراني غير المتطرف يقول لغير المسلم لكم دينكم ولي دين، مما عكس شعورا طيبا أن الإسلام ليس بدين القسر وإنما هو حقا دين الرحمة، ودين إعطاء الإنسان حرية الاعتقاد امتثالا لقول الله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). شاهدت نجرانيا (شبه أمي) يتحاور مع غير مسلم ليقول له النجراني : ديني ليس بحاجة أن افرضه عليك. بل انه يأمرني أن احترم دينك، ولو شاء الله لجعلنا امة واحدة، وكان ذلك النجراني رجل بسيط من شكله وكلامه، فقال له ذلك الرجل غير المسلم وبلغة عربية مكسرة (هذا إسلام كويس ). بل انه أعجبني أن الناس هنا لايبالغون في دعوة بعضهم البعض من نفس المذهب إلى التعبد، تاركين الأمر لقناعة الشخص وإيمانه، ولايهمهم من يسلم من غير المسلمين ولا من يتمذهب بمذهبهم من المسلمين، ولاتسمع خطبا ولا سياسة ولا ترى مظاهر لكسب الأضواء ولفت الانتباه في مساجدهم بقدر ما تكون أجواء المسجد عبادية بحته، وإذا كان هناك وقتا مستقطعا بين الصلوات، فإنهم يقضونه للصلاة قضاء وقراءة القرآن بعيدا عن ممارسة أية شعارات سياسية أو تنظيمية تستغل الدين لهدف لاعلاقة له بالإيمان والتعبد. بل أن نجران من وجهة نظري تعتبر المدينة العربية التي لا تخلط بين الدين والسياسة، فتجد هنا رجل الدين الملتزم أو المتشدد يجلس مع الليبرالي وأي صاحب فكر أو دين أو مذهب مخالف ليحاوره ويصادقه ويحترمه ويتعامل معه بكل إنسانية وأريحية وحضارية لا تجد لها مثيلا في أي مجتمع عربي. لايمكن أن يجعل النجراني من الدين عقبة بينه وبين الآخر المختلف دينا أو فكرا أو مذهبا كي يستعديه أو يكرهه. اذكر ذات مرة أنني وأحد أعضاء مجلس الشورى الزائر لنجران في ذلك الوقت كنا ضيوفا عند احد أعيان المنطقة وكان معظم الحضور محسوبين على الملتزمين الدينيين من المنطقة وتم إثارة موضوع قيادة المرأة للسيارة فوجدنا أن كل أولئك الملتزمين يؤيدون قيادة المرأة للسيارة مما جعل مضيفنا يعلق ساخرا وموجه الكلام لعضو مجلس الشورى القادم من الرياض ليقول له : مطاوعتنا ليبراليين يا دكتور وعقولهم متفتحة وغير متطرفين وضحكنا جميعا! قلت لصديق نجراني ملتزم دينيا : لم أشاهدك تقسوا على أولادك كي يؤدوا العبادات مثلك رغم تدينك الواضح. قال لي : أنا أعلمهم أمور الدين وأحثهم على أداءها واغضب عليهم إن قصروا فيها... لكنني لا اريدهم أن يصلوا خوفا مني وإنما أريدهم أن يؤمنوا بما يعتقدون ويعبدون الله بإيمان خالص وبعقل متفكر. ثم قص علي قصة للإمام علي بن أبي طالب قال : أن الإمام علي مر بإعرابي وهو يصلي صلاته مستعجلا فوقف الإمام علي بجانب الأعرابي ومعه عجراء وقال له اعد صلاتك بتأني فقام الإعرابي وأعاد صلاته وبعد أن انتهى من صلاته سأله الإمام : ما الأفضل... صلاتك الأولى أم الثانية؟! قال الإعرابي : بل الأولى يامولاي. قال له الإمام لماذا؟ّ! قال الإعرابي : لأن الأولى..لله... والثانية للعجراء! لاتسمع..هنا..ثقافة تخوين وتكفير الآخر، وتشعر بالراحة وأنت ترى الناس متيقنة من إيمانها وغير منشغلة أو متوجسة من إيمان الآخر. والعجيب أنني وجدت الكثير من الأجانب عربا وغير عرب،مسلمين وغير مسلمين يعيشون في نجران منذ سنين طويلة ولايريدون أن يعودوا إلى بلدانهم ويتبادلون أجمل علاقات الود والاحترام مع أهلها. ويتحدثون عن كرم النجراني معهم وطيبته وتعامله الإنساني الذي يجعلهم يشعرون أنهم لن يجدوا مكانا يقدرهم ويمنحهم الخير مثلما يمنحهم الواقع النجراني. والغريب انك تجد في اغلب مدن الدنيا حارات أو شوارع تتكاثر فيها عصابات الجريمة أو العنف إلا في نجران، فالجميع هنا يخضع لقوانين عرفية تفرضها قيم القبيلة المسيطرة مما يجعل اللجوء إلى قوانين الدولة نادرا إلا في حدود معينة مما يوفر على الأجهزة الحكومية عناء التدخل في المشكلات التي قد تحدث من وقت لآخر. وبرغم الشعور بالقوة والعزة والأنفة عند النجراني إلا انه أكثر سكان البلد احتراما لقوانين وأنظمة دولته وهو سلوك حضاري رائع ذكره المفكر والفيلسوف الفرنسي ديكارت في خطوات توجيه العقل : أن يحترم الإنسان قوانين دولته مهما اختلف معها. قلت لصديقي : اشعر أن القديم النجراني هو الحضارة. فالأكلات النجرانية تعتبر من أجود وأرقى الأكلات بتنوعها الغني بكل أنواع الغذاء الطبيعي الذي تنتجه المنطقة الغنية بالموارد الغذائية. وأجمل الأدوات التي تستخدم لتقديم الغذاء هي ما يملكه النجراني من أدوات قديمة مصنوعة صناعة محلية نجرانية حيث يدهشك مناسبتها لكل أنواع وظروف الطبخ وبما تتمتع به من ميزات صحية لحفظ الغذاء واحتواءه، وكذلك ما يملكه النجراني من أدوات صناعية محلية أخرى كبعض الحياكات والجلود والحلى والحدادة والنجارة وغيرها من المصنوعات النجرانية المحلية التي يصنعها نجرانيون شرفاء ويتوارثون مهنها الحرفية منذ مئات السنين تشعرك بأنك في مدينة تاريخية حضارية تسعد بالعيش وسط أجواءها العريقة، وعندما تستخدم كل تلك المصنوعات في الأجواء الرمضانية تزيد روحانية رمضان جمالا يجعلك تتمتع بكل لحظة رمضانية وسط الأجواء النجرانية. بل أن القيم النجرانية العرفية القديمة تعتبر من وجهة نظري شبيهة بالقيم الحضارية التي بنيت عليها الدول الديمقراطية الحرة. حرية التعبير عند النجراني متجذرة حيث تجلس في أي مجلس نجراني تسمع حوارا حرا متنوعا يشارك فيك الأمي والمتعلم والطفل والشاب والكبير في السن يناقش كل القضايا المحلية والعالمية، بل أنه يدهشك حب الناس هنا للمعرفة بمختلف ألوانها، تجلس مع رجل كبير السن لم يتجاوز تعليمه المرحلة الابتدائية لتجده يتحدث إليك بفلسفة سقراط وافلاطون، وتستمع لآخر لايحمل مؤهلا علميا غير ما تعلمه في مدرسة الكتاتيب وهو يقص عليك تسلسل الأنبياء منذ آدم وحتى محمد ليخبرك بشكل منطقي عدم انقطاع الرسالات، وأتساءل دائما مع نفسي كيف استطاع هذا الانسان النجراني أن يحافظ على ارثه الديني والحضاري في ظل غياب تام للمعهد والجامعة والمكتبة وكل المؤسسات والوسائل التي تعلم وتوثق وتحفظ هذا الإرث التاريخي الكبير الباقي من أيام الدولة الفاطمية برغم كل الظروف الذي تعرض له هذا الإرث منذ أن غادر دولته مصر مرورا باليمن إلى أن استقر في نجران؟! لم أجد أناسا يملكون المعرفة بشكل فطري مثلما أجدهم هنا في نجران، فالأمي الذي لايقرأ ولا يكتب والمتعلم الحاصل على أفضل الشهادات العلمية يجلسون في مكان واحد يناقشون كل القضايا السياسية والدينية والعلمية بمستوى متقارب من الفهم، وقد تفاجأت ذات يوم وأنا أردد بصوت خافت بيت شعر لنزار قباني يقول : أنا ياحبيبتي متعب بعروبتي... لأجد رجلا أميا يقاطعني ويكمل البيت والقصيدة كاملة بعد أن أكمل البيت قائلا : هل العروبة لعنة وعقاب! وقد استثار نفسه وتغيرت ملامحه وهو يقرأ تلك القصيدة التي كتبها نزار غاضبا على أمته وناقدا لتخلفها. وعندما وصل إلى البيت الذي يقول : يتقاتلون على بقايا تمرة... غص بالكلام وسكت! التكافل الاجتماعي في نجران : لاتجده في أي مجتمع عربي آخر، حيث يتكافل الناس هنا عبر جمعيات عرفية تسمى ( الغرم) يشارك كل أفراد القبيلة في الغرم بمبلغ مادي يعينون به من يكون في حاجة إلى عون عند ظرف معين، وأنا أشبه الغرم النجراني ب(مؤسسة المجتمع المدني التعاونية )، ولو استغل النجرانيون أموال الغرم لبناء مستشفيات ومدارس خاصة لأصبحت نجران نموذجا فريدا بين المدن العربية في التكافل الاجتماعي حينما يتحول من عرفه القبلي إلى مؤسسة مدنية اجتماعية حديثة. كذلك يتصف المجتمع النجراني بما يسمى (الفزعة ) المشابهة تماما للتطوع في المجتمع المدني، حيث تجد النجراني متطوعا دون سابق إنذار وبدون ثمن يقبضه لأي عمل إنساني حتى لو افقده حياته، مما يجعل الأجنبي في نجران يشعر بطمأنينة وأمان بين النجرانيين لايشعر بها في بلاده ويستأمن على أهله وأولاده، لأن الغريب والجار عند النجرانيين يعامل معاملة مثالية ويحصل على كل الدعم والاحترام والمساندة. وكذلك يعرف النجراني (بحميته) المشابهة لجمعيات حقوق الإنسان في المجتمع المدني، لأن الحمية النجرانية تقوم بدور المساند للمظلوم وتقف معه ضد ظالمه. أما قيم الصدق والكرم والأمانة والعدل واحترام الجار والالتزام بالوعد فهي قيم يتعلمها النجراني منذ طفولته وهي قيم أخلاقية حضارية ترسخها المجتمعات المدنية كثقافة يتعلمها المجتمع. وكذلك يتربى النجراني على الشجاعة والدفاع عن الحق والنفس بشكل متميز مع الحرص أن لايكون معتديا. لذلك عندما ذهب وفد نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة كان أول سؤال وجهه لهم الرسول هو : بما تغلبون عدوكم؟! قالوا : لا نبدأ بالعداوة على أحد وإذا تجمعنا لانفترق... قال لهم : صدقتم! ويمتلك القانون العرفي القبلي النجراني فيتو ضد الخائن يسمونه قانون (العائب) وهو قانون يفرض حتمية تخلي عشيرته وأسرته عنه احتراما للمصلحة العامة للمنطقة أو القبيلة الأم كي ينال جزاءه. ومن يقف مع الخائن أو يسانده يعتبر خائنا مثله يسير عليه ما يسير على الخائن وكأن المجلس القبلي الذي يصدر ذلك التشريع أو القانون في السابق مجلس امن بصلاحيات الفيتو. العبادة هنا : خالية من كل الطقوس التي تجعل من العبادة.. خرافة أو سلطة وسياسة ومصلحة! حيث لم أرى نجرانيا يذهب إلى المسجد متعاليا وكأنه يملك الحقيقة وحده، ولم أرى طفلا يتقمص حب الصلاة والعبادة، الناس هنا تعلم أولادها أمور الدين وتعطيهم كراسة الصلاة والوضوء والطهارة ثم تتركه يؤمن بيقين أو لايؤمن، ويقولون : انك لاتهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. ومع ذلك تستغرب أن الأولاد هنا ومنذ عقود طويلة يدرسون في مدارس الدولة ويتعلمون منهجا دينيا مذهبيا يختلف عن مذهبهم ويظلون محافظين على مذهبهم بإيمان قوي واعتزاز شديد وافتخار يصل أحيانا إلى درجة الجنون، وأتساءل باستغراب : كيف يظل هذا النجراني محافظا على التعلق بمذهبه رغم كثافة التمذهب حوله المسنودة بالدعم الإعلامي والمالي والرسمي من جميع الجوانب؟ لكنني أتساءل دائما : كيف يستطيع هذا الطفل أن يحافظ على صفاء ذهنه وهو يعتنق مذهبا يؤمن به مقتنعا، ويتعلم في المدرسة تعاليم مذهب يخالف مذهبه؟! أليس من الأفضل أن يتعلم كل طفل تعاليم مذهبه بعيدا عن القسر والفرض بدلا من أن يعيش لحظة ازدواج قد تترك أثرا سلبيا في النفس لايزول ترسبه ويخلق شيئا لاينعكس بالإيجاب على مصلحة الوطن الكبرى؟! أليس الأفضل : أن يكون المنهج الدراسي الديني عبارة عن كتاب يجمع بين ما يجمع المذاهب ويكون بشكل مختصر ومقنن ويكون للأسرة حرية ومسئولية تعليم أبناءها تعاليم وطرق العبادة لتكون المدرسة قادرة على تأدية دورها التعليمي والتربوي بما يخلق أجيالا متعلمة أكثر من أن تكون مؤد لجة ولكي لا ينشغل الطلاب بما يغرس في نفوسهم الفرقة مع أبناء جلدتهم وبقية شعوب العالم؟! هل المدرسة مكان لتخريج الدعاة والوعاظ والمتشددين أم لتهيئة الطلاب كي يكونوا مهندسين وأطباء وعلماء وليشاركوا في بناء الوطن والأخذ به إلى فضاء التقدم والاختراع والتطور؟! أعود إلى أجواء نجران الرمضانية، التي اشعر فيها بعد ثلاثين سنة من الغياب بروحانية عجيبة لم أعشها من قبل في أي مدينة، كونها روحانية تسمع وتشاهد في أجواءها حرية إيمانية متعددة، لو لم يكن هذا النجراني يملك قلبا يتسع لغيره وتراثا يقدس التنوع وحرية الإيمان والاختيار منذ شهداء الأخدود وحتى حينه لشاهدنا نوعا من التوتر كون المنطقة برمتها منذ مئات السنين تتبع لمذهب إسماعيلي فاطمي وكل ما عدا مذهبها أتى إليها رسميا أكثر من أن يكون جزءا من واقعها الذي يحترم التعدد والتنوع قبل أن تكون نجران إسلامية الدين وفاطمية المذهب. قلت لنجراني آخر : كيف تملكون هذه الروح السمحة التي تتقبل الاختلاف المذهبي مع الآخر دون أن تستعديه؟! قال لي : أتصدق أن المذهب الإسماعيلي قد تعرض للأذى من حكومة الإمام اليمني السابق قبل عقود طويلة، وعندما جاءت فئة كريمة من معتنقي المذهب الزيدي لتعيش في نجران بعد سقوط الحكم الامامي في اليمن لم تجد في نجران سوى كل الترحيب والاحترام لخصوصية مذهبهم؟! وهاهم يعيشون بيننا منذ عقود دون أن يضايقهم احد! لو كانت كل المدن في محيطنا بهذا التسامح النجراني لقبول الآخر واحترام هويته لعم الصفاء والنقاء ولتوشحت كل مدينة بلون يشبه هذا اللون النجراني الجميل والمهيب الذي تراه كل عين منصفه في جبل أشم وعلى ملامح رجل طاعن في السن توحي لك بالنخوة والعزة وفي وجه قمر يطل عليك ليلة النصف في سماء نجرانية لا يشبهه إلا نقاوة وجه طفل نجراني تمتزج في تعابيره البطولة في أوج بهاءها والبراءة في عز طهارتها! بهذه الروح والروحانية الإيمانية النجرانية الصافية المتسامية الصابرة، استرجع التاريخ واستقرأه لأثبت لنفسي انه لم يكتب لهذه المنطقة من القداسة ولا لأهلها من العزة الذين آمنوا في طهارتها ونقاوتها ومبادئها، إلا لأنها كانت منطقة متسامحة تدافع عن حريتها بقوة وتؤمن أن للآخر حريته. هكذا كانت نجران مدينة لليهود وللنصارى وللمسلمين منذ آلاف السنين، وهكذا هي تكون مدينة فريدة في هذا الوطن للتعايش بين المذاهب الإسلامية، ترفض وتغضب أن يسلبها لون واحد حريتها، وتستمر في إعطاء دروسها للشرفاء والأحرار الذين يؤمنون في التحرر من كل قيد يخضع الإنسان ويقصيه عن ممارسة دوره في الحياة ككيان حر ومستقل يفكر بعقله المتجرد عن كل قسر! هنا : وسط هذه الروحانية الإيمانية الحرة... أعيد للذاكرة صورة أبي وهو يؤذن في مسجده الطيني بدون ما يكرفون، ويؤمنا بدون مرتب. أتذكر كيف كان للصلاة معه لذة ايمانية مميزة.. لأنها كانت لله خالصة. هنا.. أجدد عشقي القديم لمدينتي نجران التي تمنح هذا الإنسان أنفة الحر كي يؤمن باختياره وتحترم الإنسان أيا كان دون أن تميز أحدا على غيره بناء على دينه أو فكره أو مذهبه. وقد أصبح كل نجراني حبيبا وعاشقا مجنونا لمدينته حتى أصبحت وفية لكل عشاقها تمنحهم التمر والعنب والرمان والقمح وكل أنواع الفواكه والخضروات والماء العذب النقي! المدن العظيمة : إذا أحبت إنسانها منحته الخير وغرست في دمه الكرامة وعشق الحرية والإنسان القوي : إذا أحب مدينته يمنحها دمه ويغرس جسده في ثراها لغما يفجر كل معتد على طهارتها! وهذا ما يجعلني افخر دائما أنني احد غرسات هذه المدينة التي لاتنجب من يرومون عبودية غير الله!! سالم اليامي صحيفة ايلاف