مع بدء الثورات العربية حذرتُ من تكريس الاصطفاف الإعلامي، بين مؤيدٍ للثورات ورافضٍ لها، لنبتكر نموذجاً أكثر إلحاحاً وأعني بها الرؤية النقدية للحدث، بحيث نتعلم من الحدث بإيجابياته وسلبياته، من أجل تصور واقعٍ أفضل، حتى الثورات التي تمت في مصر وتونس، أنتجت مجموعةً كبيرة من السلبيات وإن كانت حملت إيجابياتها الضرورية في البدايات. القراءة النقدية الفاحصة لما آلت إليه الثورات هي الآلية التي نحتاجها من أجل فهم الحاضر والمستقبل في الدول التي تضطرم هذه الأيام.
فَتحتْ لنا الثورات نوافذ اكتشافٍ ضرورية لقراءة الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، بعد الثورات واضطرامها صار الحديث عن الإصلاح والتعهد بإجرائه ليس مطالبةً شعبية، بل دخل في سياق التطبيق، كما فعلت بعض الدول العربية.
في المغرب مثلاً استطاع الملك أن يجري تغييرات جذرية على بنية الدستور، وقبيل أن تنشب الثورة السورية، قال الرئيس السوري إن الإصلاحات ضرورية، وأن القرب من الشباب بات ضرورة، لكن لم يمض على حديث الأسد إلا بضعة أيام حتى زحفت الثورة ناراً من كل المدن باتجاه أسوار دمشق.
أما في ليبيا فإن وضعها كان هو الأصعب، تعنت من القذافي، وشراسةٍ من الثوار، تحولت بسهولة الثورة إلى مواجهةٍ حربية بين طرفين غير متكافئين، ليتدخل المجتمع الدولي ممثلاً بحلف الأطلسي، هذه التحركات كلها تعني أن الثورات العربية ليست طارئةً أو أحداثاً عابرةً كما كان يتخيل الرئيس السابق مبارك أو نظيره بن علي، بل هي مرحلة تحول تاريخية عرفنا الآن بداياتها فقط، لكننا لا نعلم إلى أين ستؤول بالثوار والمجتمعات والدول والأنظمة. الشيء الأكيد أن الثورات أفادتنا بحكمة أن الاستبداد وقود الغضب، وأن الإصلاح ينثر السعادة والبهجة والرضا والرفاهية في حياة الشعوب. والعقلاء بالتأكيد سيختارون الإصلاح بديلاً للاستبداد والقمع. السؤال الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن، في ظلّ كل السلبيات التي قرأها البعض عن الحدث، هل يمكننا القيام بقراءةٍ إيجابيةٍ للحدث؟ وهل يمكن أن نظفر بقيمةٍ إيجابية أنتجها الحدث؟
كانت المنطقة العربية تشبّه من قبل المفكرين بأنها "صالة امتحان" وذلك لفرط الهدوء الذي تعيشه، والاستكانة التي يتصف بها العرب، حتى شبّههم بعض الإعلاميين بكل أسف بأنهم ك"القطعان" التي لا تثور على الاستبداد ولا تحتجّ عليه، لكن حدث تونس كان صادماً، لم يستطع الكثيرون امتلاك مشاعرهم مع الحدث بكى البعض فرحاً، وبكى بعض المناصرين المنتفعين من النظام كمداً.
ثارت الشعوب لتعلن عن وجودها، عن إرادتها لتنعم بعيشٍ أكثر رغداً، بدلاً من كل ذلك السحق والقمع الذي عاشته طوال عقودٍ مضت، إذن نحن أمام تحول من الهدوء المستكين إلى المطالبة السلمية، وإن كانت بعض الثورات قد انجرّت إلى بعض العنف. القراءة الإيجابية الثانية أن الإصلاح لم يعد جرماً، خلال هذه الأحداث بات مفهوم الإصلاح مقبولاً، حين قابلت بعض الأنظمة "الموت"، رضيت ب"السخونة" كما في سوريا وليبيا واليمن، وذلك تحت ضغط الثائرين ومطالباتٍ قوية تتركز بإزالة شخصية الرئيس من سدة الحكم، وهذا ما دفع تلك الأنظمة لإقرار الإصلاح مشروعاً سلمياً اجتماعياً يحفظ للمجتمعات توازنها وأمنها الأهلي. على مستوى الإعلام تسابقت القنوات لنقل الحدث، وأعطت الثورات للإعلام اختباراً كبيراً، من حيث استنفار المراسلين وإجادة صناعة التقرير والدخول في صلب الأحداث لتغطيتها وإيضاح صورتها الجلية. القنوات الإخبارية لم تكن تتنافس فيما بينها فقط، بل كانت تحاول مجاراة مواقع التواصل الاجتماعي؛"فيسبوك" و"تويتر" فأصابها اللهاث، وخانتها اللياقة أحياناً، مقارنة بسرعة المواقع الاجتماعية، بغضّ النظر عن مستوى تمحيصه هنا. نعم لسنا بحاجةٍ إلى الاصطفاف مع الحدث أو ضده، بل يمكننا أن نقف أمامه لنقرأه حدثياً ونقدياً بين آثاره الإيجابية والسلبية...هكذا أُفضل أن أرى الأمور.