يمثل مصطلح المواطنة الرقمية أحد أبرز المصطلحات التي يتم تداولها مؤخراً في ظل التقدم المتسارع لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والانتشار الهائل لاستخداماتها في الأوساط التربوية والعلمية والتقنية. والتي كان لها بالغ الأثر في العديد من القضايا التربوية والاجتماعية المرتبطة بالوطنية والانتماء والهوية الثقافية. وقد تزايد الاهتمام بهذا المصطلح في ظل الأحداث الجارية التي تعايشها منظومة التعليم والتحول نحو نمط التعليم الإلكتروني الطارئ عن بعد. الذي يعتمد بشكل كبير على تطبيقات التكنولوجيا وتقنياتها الرقمية لإدارة وتنظيم وتقديم الخدمات والعمليات التعليمية المختلفة وضمان استمراريتها. ونتيجة لارتباط المواطنة الرقمية المباشرة بمنظومة التعليم والتعلم برزت الحاجة لإيجاد منظومة معايير ومحكات مرجعية أخلاقية تتضمن المبادئ العامة والخطوط الإرشادية والوقائية والتحفيزية لضمان توظيف التكنولوجيا الرقمية في العملية التعليمية والاستفادة من إيجابياتها وتحفيز المعلمين والمتعلمين لاستخدامها والتعامل معها بشكل وظيفي يضمن الاستفادة القصوى منها والوقاية من السلبيات والمخاطر المترتبة على إساءة استخدامها. وتشير المواطنة الرقمية إلى مجموعة المعارف والمهارات والاتجاهات التربوية التي ينبغي إكسابها وتنميتها لدى المتعلمين والمرتبطة بالتعامل والاستخدام الأمثل لتقنيات المعلومات والاتصالات في الحياة الواقعية والبيئة الصفية. وذلك من خلال إعداد المتعلمين وتمكينهم من مهارات الضبط والتحكم والمساءلة والإدارة الذاتية لسلوكياتهم وممارساتهم المختلفة عند انغماسهم في جنبات التقنيات الرقمية الحديثة وتطبيقاتها المتنوعة. إذ ينبغي على المتعلم كمواطن رقمي التعامل الذكي مع التكنولوجيا بأن يكون واعياً لاستخدامات الأدوات والمصادر الرقمية، وتطويعها ليكون مشاركاً فاعلاً في خدمة نفسه ومجتمعه ووطنه، ناقداً للمحتوى الرقمي، يمتلك مهارات أخلاقية واجتماعية تضبط تفاعله في بيئات التعلم الرقمية. ولكي تتحول المواطنة الرقمية من مجرد مفهوم نظري يتم تداوله إلى ممارسة واقعية من خلال المناهج التعليمية عموماً ومناهج العلوم الطبيعية على وجه الخصوص ينبغي التركيز على أن يتم تطبيقه في ميدان التربية والتعليم ليصبح عملية تنموية شاملة ومتكاملة تهدف لغرس وتعميق قيم ومبادئ ومهارات التعامل في العالم الرقمي من مختلف الجوانب المعرفية والوجدانية والمهارية حتى تنعكس بشكل جلي على تصرفات وممارسات المتعلم. ليصبح مواطن رقمي صالح يتمتع بثقافة رقمية سوية تمكنه من الاستفادة الوظيفية الفاعلة من التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها الرقمية في مجال العلوم الطبيعية. ولكي يتم التحقق من تضمين مبادئ المواطنة الرقمية في مناهج العلوم الطبيعية بشكل فعال ينبغي أن يتم التأكيد على تنمية الوعي والإدراك بالعالم الرقمي ومكوناته من خلال الاستعراض السلس والمتناسق مع المحتوى العلمي. إضافة للتركيز على تحقيق الممارسة الفعلية للمهارات الرقمية وتطبيقها ضمن سياق الخبرات العلمية وما تتضمنه من أنشطة ومهام ثرية يتفاعل من خلالها المتعلم مع المحتوى العلمي والمعرفي مستخدماً المهارات والكفايات ضمن إطار سلوكي أخلاقي تحكمه المبادئ والقيم والواجبات والالتزامات الذاتية والمجتمعية المقبولة. فالتربية على المواطنة الرقمية تستلزم عمليات متسلسلة ومترابطة من التوجيه المخطط من قِبل المعلم والمتعلم للاستخدام الفعلي للمصادر والتقنيات الرقمية بهدف تنمية المهارات والسلوكيات التي تمكنهم من أن يصبحوا مواطنين رقميين متفاعلين. بما يمتلكونه من مهارات القرن الحادي والعشرين الرقمية والتي تمكنهم من المساهمة في الحياة الواقعية والمشاركة الفاعلة في المجتمع، وحلّ مشكلاته بأسلوب علمي، والانطلاق الجاد نحو عالم العمل مستقبلاً. إذ أن تضمين مهارات القرن الحادي والعشرين الرقمية في مناهج العلوم يساعد المتعلمين على فهم الموضوعات العلمية، وربطها بشكل تكاملي ببقية المجالات كالهندسة والرياضيات من خلال تنمية التفكير وبناء أفكار جديدة خلاقة، واستخدام أدوات المعرفة والتقنية لمواصلة التعلم مدى الحياة، ليصبحوا قادرين على العيش والإبداع في بيئة تقنية إعلامية، في ظل ثورة المعلومات والاتصالات بعيداً عن أي حدود وحواجز زمانية أو مكانية أو معلوماتية أو ثقافية. وتشمل مهارات المواطنة الرقمية لمتعلم القرن الحادي والعشرين المهارات المرتبطة بالتعلم والإبداع والابتكار: كالتفكير الناقد وحلّ المشكلات والتفكير باستقلالية، والتعامل مع المعلومات بمسؤولية، وتطوير القدرة وتقييمها، وإصدار الأحكام والقرارات، والعمل الابتكاري مع الآخرين، وتنفيذ الابتكارات. إضافة لمهارات الاتصال والتشارك والمتمثلة في: التواصل بوضوح والتعاون مع الآخرين. إضافة لمهارات الثقافة الرقميّة والتي تتضمن: مهارات الثقافة المعلوماتية وما تتطلبه من الوصول للمعلومات وتقييمها واستخدام وإدارة المعلومات. كذلك تشمل المواطنة الرقمية مهارات ثقافة الوسائط الإعلامية: كالقدرة على تحليل وسائل الإعلام، وابتكار منتجات إعلامية. ومهارات ثقافة التكنولوجيا والاتصال: كالقدرة على استخدام الحاسوب والحوسبة وتحليل البيانات والاستشعار عن بعد والنمذجة، ومراعاة الجوانب الأخلاقية عند استخدام التكنولوجيا. وتشمل كذلك مهارات المهنة والحياة: كالتكيف مع التغيير، والمرونة، وإدارة الوقت والأهداف، والمبادرة والتوجيه الذاتي. إضافة للمهارات الاجتماعية عبر الثقافات كالانخراط في العمل مع أفراد من مختلف الأعمار، والخلفيات والقدرات، والتفاعل بكفاءة مع الآخرين، والعمل بفاعلية في فرق متنوعة والاستفادة من الاختلافات الاجتماعية والثقافية لبناء أفكار جديدة. كما تشمل مهارات المواطنة العالمية التي تظهر في: القدرة على توجيه المتعلم لمعارفه وسلوكه وقيمه بمسؤولية، وبما يُعزز التقارب الفكري بين مكونات المجتمع المختلفة، ويرفع وعيه بالتحديات العالمية، ويزيد من إسهاماته في بناء وتطوير وطنه بشكلٍ أساسي، وتأصيل ممارسات الاستدامة البيئية، والعدالة الاجتماعية، والمساهمة في تكوين توجهات إيجابية نحو مشكلات المجتمع والتحديات العالمية. وتمر عملية دمج وتضمين مهارات المواطنة الرقمية خلال تعليم وتعلم العلوم الطبيعية بأربع مراحل رئيسة هي: مرحلة الوعي الرقمي ويتم فيها تثقيف المتعلمين تكنولوجياً والتحقق من امتلاكهم القدر المناسب من المعرفة والوعي من خلال تزويدهم بالمعارف والمعلومات المرتبطة بالتقنيات الرقمية عموماً وتطبيقاتها واستخداماتها في العلوم الطبيعية وسبل التعامل معها بما يتوافق مع طبيعة مناهج العلوم. يلي ذلك مرحلة الفهم والاستيعاب الرقمي وفيها يتم اكساب المتعلمين وتنمية قدراتهم على الاختيار والمفاضلة والمقارنة بين البدائل والخيارات الرقمية المطروحة من خلال تحديد مدى مناسبتها وملاءمتها للقيم والمبادئ الأخلاقية والعلمية وإدراكهم للنتائج التي تترتب على ذلك. ثم تأتي مرحلة الانغماس والتمكين والفعل الرقمي وفيها يتم تمكين المتعلمين من الاستخدام الفعلي للتكنولوجيا وتطبيقاتها الرقمية في عمليات وممارسات التعلم بالاعتماد على ما تكون لديهم من رصيد معرفي وفكري وقيمي خلال المرحلتين السابقتين. وأخيراً تأتي مرحلة التفكير والتأمل الرقمي وفيها يقوم المتعلم بفحص ممارسات التعلم الرقمية وتأملها ونقدها والحكم عليها في ضوء مدى رضاه عنها وعن النتائج والآثار المترتبة عليها والعمل على تقوية نقاط القوة وتعزيزها، والتعرف على مواطن الخلل والضعف في ممارساته الرقمية والعمل على تحسينها وإعادة توجيهها بالشكل الملائم والمتناسب مع الضوابط الأخلاقية والعلمية للمواطنة الرقمية. ولكي نضمن تطبيق المتعلمين لممارسات ومهارات المواطنة الرقمية خلال تعلم العلوم الطبيعية ينبغي أن يركز معلم العلوم على: التدرج في استخدام التقنيات الحديثة ودمجها في مناهج العلوم بشكل مرحلي من خلال نشر الوعي والتثقيف ثم الممارسة الموجهة بالنمذجة والقدوة وأخيراً النقد والتأمل الهادف والبناء لممارسات التعليم والتعلم الرقمية. الاعتماد على التطبيقات والبرمجيات الرقمية التي توفر خبرات حسية ثلاثية الأبعاد: المعرفية والوجدانية والمهارية لضمان تحقق الفاعلية والدافعية والاتجاهات الإيجابية. إثراء المحتوى العلمي بمشكلات بحثية حقيقية واقعية ذات ارتباط بحياة المتعلمين والظواهر الطبيعية في بيئتهم حتى تصبح عمليات التعلم والممارسة الرقمية أبقى أثراً وذات معنى. تحفيز المتعلمين على المشاركة والانهماك والتنافس الفعال في البحث والتقصي باستخدام أساليب التعزيز الرقمي المتوافقة مع طبيعة منهج العلوم من خلال برمجيات وتطبيقات التفاعل والتقويم القائمة على فكرة التلعيب والمنافسة. تزويد المتعلمين بمعايير الانتقاء والتقييم والتحقق من مصادر المعلومات وقواعد البيانات خلال ممارسة عمليات البحث والتقصي لضمان التعامل الآمن مع التقنية. تشجيع ممارسات التعاون والتشارك والتواصل العلمي الفعال خلال بيئات التعلم الافتراضية ومواقع التواصل الاجتماعي. مراعاة أنماط وتفضيلات التعلم المتنوعة أثناء عمليات دمج التقنية بالمحتوى العلمي، وتصميم الأنشطة والمهام الثرية. تعويد المتعلمين على احترام الآراء وتقبل التنوع والاختلاف الفكري وممارسة الجدل والتفاوض العلمي المبني على البراهين والأدلة العلمية الدامغة. ختاماً،،، تمثل المواطنة الرقمية إحدى أبرز القضايا الملحة التي ينبغي أن يتم تبنيها ضمن الأهداف والغايات التربوية والتعليمية والتركيز على تضمين مبادئها ومهاراتها في المناهج الدراسية عموماً ومناهج العلوم الطبيعية بفروعها المختلفة على وجه الخصوص؛ لإعداد جيل من المتعلمين الممكنين والقادرين على الانغماس والمشاركة المعرفية في العالم الرقمي بشكل آمن وفعال. المراجع: ترلينج، يبيرني؛ وفادل، تشارلز. (2013). مهارات القرن الحادي والعشرين التعلم للحياة في زمننا (ترجمة: بدر بن عبد الله الصالح). دار جامعة الملك سعود للنشر العلمي والمطابع حشيش، نسرين يسرى. (2018). مهارات المواطنة الرقمية اللازمة لتلاميذ مرحلة التعليم الأساسي. دراسات في التعليم الجامعي، كلية التربية بجامعة عين، ع39، ص ص. 408 - 427. شحات، محمد علي. (2021). المناهج الدراسية للعلوم في ظل جائحة كوفيد- 19: واقع ورؤى مستقبلية. في: المعمري، سيف(محرر)، (ص ص. 181-202) بن ناصر تطوير المناهج الدراسية في ظل كوفيد-19: استشراف من قلب الجائحة.، دار الوراق. شلتوت، محمد شوقي. (2016). المواطنة الرقمية: ترف فكرى أم ضرورة؟ مجلة فكر: مركز العبيكان للأبحاث والنشر، (15)، ص ص. 104 - 105. الصمادي، هند سمعان إبراهيم. (2017). تصورات طلبة جامعة القصيم نحو المواطنة الرقمية: دراسة ميدانية على عينة من طلبة جامعة القصيم. مجلة دراسات نفسية وتربوية: جامعة قاصدي مرباح، (18)، ص ص. 175- 184. العجمي، عمار أحمد، الهندال، دلال عبد الرزاق، والعتل، محمد حمد محمد. (2018). دور المناهج الدراسية في تعزيز المواطنة الرقمية في دولة الكويت من وجهة نظر الطلاب في ضوء بعض المتغيرات. مجلة البحث العلمي في التربية، جامعة عين شمس، (19)، 8، ص ص 413- 443. الكوت، عبد المجيد خليفة. (2015). المواطنة الرقمية: التجليات والتحديات. مجلة الجامعي، (22)، ص ص. 65-76. مجاهد، فايزة أحمد الحسيني. (2017). المواطنة الرقمية ومناهج الدراسات الاجتماعية: رؤية مأمولة. مجلة جامعة الفيوم للعلوم التربوية والنفسية. (8)، 1، ص ص. 74-96. الملاح، تامر مغاوري. (2017). المواطنة الرقمية (تحديات وآمال). السحاب للنشر والتوزيع.
*نجوى إبراهيم طحلاوي باحثة دكتوراه في المناهج وطرق تدريس العلوم إشراف : د: نهاد محمود كسناوي أستاذ مشارك في المناهج وطرق تدريس العلوم جامعة أم القرى، مكةالمكرمة، المملكة العربية السعودية