كشفت عملية التخفيض الائتماني الجارية لاقتصادات دول كبرى، كبريطانياوالصين وحتى الاقتصاد الأمريكي المهدد بخفض تصنيفه الائتماني وعدد من الاقتصادات الأوروبية وتحديدا إيطاليا وإسبانيا، عن وجود ثغرات تهدد الاقتصاد الدولي. وفي خروج على الأعراف التقليدية لوزارة الخزانة البريطانية، التي تلتزم دائما الصمت حيال التعليقات الدولية السلبية على الاقتصاد البريطاني، انتقدت الوزارة بشدة خفض وكالة التصنيف الائتماني موديز، التصنيف الائتماني للمملكة المتحدة من Aa1 إلى Aa2 . الوكالة الدولية أرجعت السبب وراء قرارها إلى توقعاتها بأن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المعروف اختصارا باسم "البريكست"، والضغوط المتوقعة على المالية العامة للمملكة المتحدة، إلى الإضرار بالاقتصاد البريطاني على الأمد الطويل، وهو ما تواصل الحكومة البريطانية إنكاره حتى الآن على الأقل. ويرجع الباحث الاقتصادي دي. ار. أندريه حالة الانزعاج الرسمي في بريطانيا لقرار وكالة موديز للتصنيف الائتماني إلى عدد من الأسباب. ويقول وفقاً ل"الاقتصادية"، إنه على الرغم من أنها لا تعد المرة الأولى التي تقوم بها موديز بخفض التصنيف الائتماني لبريطانيا، إذ قامت بذلك عام 2016 ، لكن ردة فعل الحكومة البريطانية كانت أكثر حدة تلك المرة، حيث إن القرار جاء بعد ساعات من إعلان رئيسة الوزراء تيريزا ماي في كلمة لها في إيطاليا، تفاصيل الاستراتيجية البريطانية للخروج من الاتحاد الأوروبي، ومن ثم اعتبرت لندن قرار موديز تحريضا من قبل مؤسسة دولية ذات ثقل ملموس للمستثمرين المحليين والدوليين لرفض الاستراتيجية البريطانية للخروج من الاتحاد. وذكر أن القرار يأتي في وقت شديد الحرج بالنسبة لبريطانيا، فالمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن إنهاء عضويتها تمر بمرحلة صعبة، وقرار خفض التصنيف الائتماني لبريطانيا يضع المفاوض البريطاني في موقف حرج للغاية أمام الضغوط التي يتعرض لها من الوفد الأوروبي. ويأتي تخفيض موديز لتصنيف الائتمان للمملكة المتحدة، وسط توقعات بأن يرتفع العجز في الميزانية البريطانية بعد سنوات من النجاح، حيث أفلحت حكومة المحافظين في خفض العجز في الميزانية من 10 في المائة، من الناتج الإجمالي عام 2010 إلى 2.3 في المائة للسنة المالية 2016-2017. ولكن أغلب التقديرات تشير إلى أن الاستراتيجية البريطانية في المرحلة المقبلة ستعمل على تخفيف تدابير التقشف، ورفع الأجور في القطاع الحكومي، ما يؤدي إلى زيادة الضغوط على الميزانية العامة، في الوقت الذي سيؤدي فيه النمو البطيء للاقتصاد البريطاني، والمتوقع في السنوات الخمس المقبلة، إلى انخفاض في العوائد الضريبية، وهو ما يدفع موديز إلى التوقع بأن يراوح عجز الميزانية بين 3 و 3.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. بينما تستهدف حكومة حزب المحافظين تخفيضا تدريجيا في عجز الميزانية العامة إلى أقل من 1 في المائة بحلول السنة المالية 2021-2022. وتؤكد الدكتورة جيل أندرسون أستاذة المالية العامة أن خطورة تقييم موديز أنه يبعث برسالة سلبية للغاية بشأن الاقتصاد البريطاني، ويكشف بوضوح أن الجهود الحكومية لا تمثل حلا للوضع الاقتصادي غير المستقر، وأن الإجراءات المتخذة مجرد تأخير للألم الاقتصادي الناجم عن "البريكست"، كما أنه من المشكوك فيه أن تفلح لندن في تأمين اتفاق بديل للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعطي مؤشرا على تأكل القوة الاقتصادية البريطانية، وخاصة مع ارتفاع الأعباء المالية والتنظيمية على الشركات البريطانية، التي ترغب في تعزيز التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي. لكن الاقتصاد البريطاني لم يكن الوحيد الذي تعرض لخفض التصنيف الائتماني ، إذ طال الأمر الاقتصاد الصيني أيضا، حيث قامت وكالة ستاندرد آند بورز بخفض التصنيف الائتماني للاقتصاد الصيني من الدرجة AA- إلى A+ بسبب المخاوف بشأن الزيادة السريعة للديون الصينية، وما تثيره من مخاطر اقتصادية ومالية محلية ودولية. يعتقد الدكتور توماس ديفيس أستاذ الاقتصاد الدولي أن خفض التصنيف الائتماني للصين أكثر خطورة وتأثيرا في الاقتصاد الدولي من خفضه بالنسبة للمملكة المتحدة. ويضيف أنه على الرغم من أن خطوة ستاندرآند بورز تضع تصنيف الصين على قدم المساواة مع وكالتين ائتمانيتين رئيستين وهما موديز وفيتش، إلا أن تأثيرها خطير على عدة أصعدة، فالخطوة تدعم تحذيرات صندوق النقد الدولي في أغسطس الماضي من أن نمو الديون الصينية يسير في مسار خطير، كما أن ثقل الاقتصاد الصيني العالمي أكبر بكثير من ثقل الاقتصاد البريطاني، إذ تعد الصين ثاني اقتصاد في العالم، ومن ثم تعرض الاقتصاد الصيني لهزة كبيرة يعرض الاقتصاد العالمي لمخاطر شديدة. وبين أن أسباب خفض التصنيف الائتماني للصين ذات طبيعة عالمية، حيث إن الصين مقترضة من عدد كبير من بلدان العالم وجزء كبير منها أيضا بالعملات الدولية وتحديدا الدولار، بينما خفض التصنيف الائتماني لبريطانيا يمكن وصفه بأنه يعود لأسباب محلية، والأكثر خطورة أن تراجع التصنيف الائتماني الصيني يأتي قبل أسابيع من انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، وهو أهم اجتماع سياسي في البلاد، ويحدد السياسات الاقتصادية للسنوات الخمس المقبلة، ومن المحتمل أن يؤدي قرار ستاندرد آند بورز إلى اتخاذ السلطات الصينية لمجموعة من القرارات لخفض حدة أزمة الديون، ويمكن أن يكون لتلك الإجراءات أو التدابير تأثير في الاقتصاد الدولي في الأمد المتوسط. من جهته، يؤكد الباحث إدواردلويدز الخبير في الاقتصاد الصيني، أن خفض التصنيف الائتماني للاقتصاد الصيني، لا ينفي نجاح الحكومة في تحقيق معدل النمو المستهدف وهو 6.5 في المائة، وفي الربع الثاني من هذا العام حققت معدل نمو 6.9 في المائة، إلا أن هذا النمو زاد من نمو القوى الائتمانية أيضا، ومعه زادت المخاطر الاقتصادية الصينية، وإذ كانت مشكلة القروض في الصين التي بلغ الإجمالي الكلي لها سواء للقطاع العام أو الخاص 33 تريليون دولار، أكبر مشكلة تشهدها البلاد حاليا، فإن الاقتصاد الكلي لا يزال يتمتع بثقة دولية ملحوظة حتى من جانب المستثمرين الأمريكيين على الرغم من تصاعد حدة الخلاف التجاري بين البلدين. بطبيعة الحال لم تستسغ السلطات الصينية خفض التصنيف الائتماني لها، وواصلت تأكيد قدرة الاقتصاد الصيني على التعامل مع أزمة المديونية، والقول إنها اتخذت تدابير صارمة للسيطرة والحد من عمليات الاقتراض. بدوره، يضع البروفيسور هندرسون كير أستاذ التجارة الدولية عملية خفض التصنيف الائتماني للاقتصادات الكبرى ضمن إطار اقتصادي أشمل مرتبط بالاقتصاد العالمي. ويقول ، إنه على الرغم من أن خفض التصنيف الائتماني للصين لا يأخذ في الحسبان البنية المالية للاقتصاد الصيني، وعملية خلق الثروة الناجمة من الإنفاق الحكومي المتزايد خاصة على البنية الأساسية، إلا أنه من الملاحظ أن الاقتصاد البريطاني والصيني وحتى الاقتصاد الأمريكي المهدد بخفض تصنيفه الائتماني وعدد من الاقتصادات الأوروبية وتحديدا إيطاليا وإسبانيا، تكشف عن عدد من الثغرات الموجودة في الاقتصاد الدولي، وأبرزها استمرار حالة عامة من عدم الاستقرار في الاقتصاد الدولي، وتعبر عن نفسها في كل دولة من الدول الكبرى بشكل مختلف، وهو ما يعكس افتقاد الاقتصاد الدولي وتحديدا بلدان مجموعة العشرين التنسيق الواجب فيما بينها لإعادة الاقتصاد الدولي إلى سابق عهده. ويشير إلى أن عملية التخفيض الائتماني الجارية والمتوقع أن تتواصل وتطول مجموعة من الاقتصادات الكبرى، تؤكد أن الاقتصاد العالمي لا يزال يمنح ما يعرف باسم الاقتصاد الافتراضي أي القطاع الخدمي الأولوية على القطاعات التقليدية المنتجة مثل القطاع الصناعي والزراعي، وهذا تحديدا يوجد حالة من الخلل في مسيرة الاقتصاد الدولي ككل.