يتحرك بسيارته مسرعاً نحو مقر عمله ، ينزل من سيارته بسرعة وينسى أن يقفل الباب ثم يعود في خطوات متعاكسة فقدم تريد الذهب و قدم تعود ، ثم تتسابق قدماه ويحملنه نحو كرسي صغير ، يجلس وقدميه لا تكاد تلمس الأرض ، واحد اثنان استعد أنت على الهواء الآن . يركز بعينيه إلى شاشة صغيرة تمر من خلالها نشرة مكتوبة يتخطفها بعينيه ويقرأ الكلمات لمدة تتراوح بين العشر والعشرين دقيقة ، لا يرى فيها إلا مجموعة من الأسلاك والأجهزة الكهربائية والمصابيح ، يسلم ويحيي ثم يقرأ ويودع ، وكل هذا الخطاب لجهاز منصوب أمامه ..مجنون! . يجلس ويضحك ويقهقه و يبتسم ، يلتفت يمنة ويسرة ، يتحدث بلا توقف ولو سمعته من خلف الباب لظننت أن الحجرة مزدحمة بالبشر وصاحبنا على منبر ، ولكنه يخاطب قطعة معدن صغيرة ، وليس عنده إلا بعض من يساعده على جنونه ويشجعه !! أليس بمجنون ؟ وقد كتب لنا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مرة و ذكر أنه يحس بالجنون وهو يتحدث إلى علبة صغيرة ولا يدري هل ثمة من يسمعه أم أنه يتحدث إلى نفسه . وآخر سن قلمه وسطر ورقته بكلمات صفها صفاً ، وقد كتبها من صميم قلبه يظن الكل يفهمه ويدرك ماذا يخط ، ويكتبه معتقداً أن هناك مليار شخص يقرأ له ويظن أنه سيغير الناس بكلماته التي يراها أجمل الكلمات تلك اللحظة ، فهو يظن أن الجميع متمسك بتلك الصحيفة أو المجلة فقط ليقرأ مقالته ، بل ربما قرأ عدد النسخ المباعة ذلك اليوم ..أقلهم جنوناً. أتانا الإعلام الجديد ، الإعلام الشبكي التفاعلي ، تكتب ويرد عليك في الحال ، ترى الناس دخلوا وكتبوا وقيموا عملك وجهدك ، تتبع التعليقات و تستفيد منها هذا أحس بك وهذا نصحك وهذا نقدك فقومك وهذا تلفظ باللفظ الذي يليق به ، ولكن حذار أن تغر باجتماع الناس من حولك ، فرب يوم لا تجد رجع صدى ولا تغريد بلبل ، فسوف تصيبك الوحشة والوحدة تلك اللحظات ، فإن الهجوم عليك أهون من تركك وحيداً. إعلام جديد لا يمثل إلا صاحبه ، ولا رقيب عليه بعد الله إلا تقواه ، فلا يلوم إلا نفسه ، فهو من كتب وهو من تحدث وهو من صور وهو من مرر وهو من سمح وتجاوز وأوقف النشر أحياناً ، إعلام حر. أما المجانين الذين ذكرتهم في البداية فأظنهم أكثر إبداعاً و خيالاً وتفاؤل ؛ فهم يتحدثون وقد أحسوا بالناس وهم يبعدون عنهم بأميال ولا يرون ردة فعلهم ولا رجع صداهم ، فهم يتحدثون وكأن الناس أمامهم مصطفة و يذيعون كأن الناس تركت كل أشغالها وجلست منصتة للمذياع ، فوق ذلك كله فقد أثروا في الناس و تأثر الناس بهم وأنسوا وسعدوا ، فيبدوا أن المجنون من يقول بجنونهم. عسى أن تكون كل النشرات سعيدة و مفرحة ونصر وانتصار . ألقاكم على خير حال عبد الرحمن محمد الحيزان