حينما نكون متطرفين في آراءنا ننظر إلى الإنصاف أنه تطرف ، وننظر إلى المنصف أنه متطرف ، هذا ما نفهمه بعقولنا المتطرفة في بحر التطرف ، أما إذا كنا على بر الإنصاف والعدل فنراه عدلاً واضحاً ولا يتخلله الشك والتشكيك . هذه مشكلة حاضرة في كتابة التاريخ وفي قراءته وفي تحليله ، فكاتب التاريخ يجب أن يكون بعيداً عن التطرف كل البعد وكاتب التاريخ يجب أن يكون منصفاً ، وقارئ التاريخ المتطرف يبحث عمن يوافقه في تطرفه فلا يقرأ إلا للمتطرفين أمثاله لكي يفرح بما يرد في كتبهم و يطرب له ويظن أنه هو نفسه على حق ، لأن كتاباً يباع في المكتبات يوافق تطرفه فيظن أن هذا هو الحق بعينه . فالقراء المنصفين الذين يبحثون عن التاريخ الحقيقي المتجرد من التطرف يعانون في بحثهم وأحياناً تجد الطريقة الوحيدة التي تحل لهم هذه المشكلة هي التوفيق بين المتطرفين ، فيقرأ لمتطرفين متضادين ثم يحاول تحليل آرائهم بطريقة ما حتى يكون قريباً من الحقيقة وقد يصيبها وقد يخطئ والخطأ أقرب دائماً في هذه الحالة . هذه المشكلة نجدها حاضرة حتى في الحكم على الأشخاص ، فرب شخص أبدى رأيه في مسألة ثم رأى خلاف ذلك فأبدى رأياً جديداً مضاد تماماً لرأيه الأول ، البعض يحكم عليه بالنفاق والكذب والضياع وأنه مع من غلب كما نرى في آراء الناس في الحكام العرب قبل وبعد سقوطهم ، الإنسان المنصف يحكم على ما يبدو أمامه حقيقاً وحين تبدو حقيقة أخرى لا تتوافق للحقيقة الأولى يذكرها المنصف ولا يبالي بما رآه سابقاً لأن الاثنتين حقيقية بالفعل ، فمن التطرف ذكر حقيقة وإخفاء أخرى بل يذكرها كلها ، فترى المتطرفين يرمونه بما قال ويصفونه بالمتناقض والمغير لكلامه وأنه مع من غلب ويركب الموجه . إن هؤلاء المتطرفين يريدون متطرفاً مثلهم يقول القول ثم لا يحيد عنه أبداً ولا يأتي بأي قول ربما يشوش على القول الأول ، ونسوا أن الثبات على الباطل أكبر عيوب الناس حيث يرون الحق ثم يكابرون ويلزمون قولهم حتى لا يعيب عليهم الناس تركهم ضلالهم السابق كما رأينا في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه أبو طالب حينما كان يحتضر فقال له صلى الله عليه وسلم : ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد وفي رواية ( أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل و عبد الله بن أمية : يا أبا طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب. فمثل أبا جهل هنا كمثل المتطرف . إن ذكر المنصفين يذكرون جميع الحقائق التي يرونها ولا يبالون بالعداوة التي ستطالهم بهذا الفعل وهم بهذا شجعان ، وللأسف بدلاً من مجازاتهم بالثناء على هذه الشجاعة ترى المتطرفين بقصد أو بغير قصد يرمونهم بالنفاق والتناقض . إن الباحثين المخلصين لبحوثهم حين يريدون تصويب بحثهم يقفون ضد نظرياتهم وبحوثهم حتى يتبين لهم الخلل فيقومونها ثم يظهرونها . فلذلك حينما نكون أحادي التفكير والنظرة وكذلك الكتاب والمؤرخين نجزع من أضدادنا في التفكير والنظر ونعاديهم ظناً منا أنهم متطرفين ، وننسى أننا كذلك ، فنرميهم بالتطرف وننسى أنفسنا ولو كنا منصفين لعرفنا كيف نستفيد من الطرفين المتضادين . فحين نقرأ عن سيرة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الأمجاد والأفضال ونقرأ عن الحجاج بن يوسف الثقفي فتوحاته وأمجاده فقط ، نصاب بصدمه كبيره حينما نعلم أنهم متحاربان وأن جيوش الحجاج قتلوا عبد الله بن الزبير رضي الله عنه . وحين لا نقرأ منذ الصغر إلا عن فضائل هارون الرشيد وأنه يغزو عاماً ويحج العام الآخر ، نجزع من أي كاتب يذكر مساوئه ونرى أنه معتدي ومتطرف حتى لو كانت حقاً ولكنه حق مغيب ، وننسى أن الكمال لله في تلك اللحظة . فكتاب التاريخ عندنا لا يذكرون إلا الجانب الحسن ، مما جعل عندنا إيمان بمثالية تامة في السابقين من ممن استخلفوا في الأرض ، فنقف عاجزين عن الإتيان بما أتوا به ونيأس من تكراره في تاريخنا ، ونعيب على من يطلب من الحكام أن يعيدوا تلك الحقبة الغابرة التي لا نتصورها إلا مثالية أفلاطونية ، ونشكك في عقلانية طلبه . ولقد عذر أحد علماء الاجتماع المؤرخين الذين يعيشون في بلاط السلطان ، فقال أنهم كتبوا حقاً عن كرم السلطان وعدله وبره مادام يغدق عليهم ليل نهار فهم لم يروا إلا جانباً واحداً منه، ولكنهم لا يعرفون عما يجري في الشارع ، فهناك مظلوم وهناك فقير ومحروم لو كتبوا التاريخ فلن يكتبوا إلا ما عرفوا عن هذا السلطان ، لذلك فهم ليعرفون إلا الجانب القبيح، وعذر السلطان ، ذلك بأن من يأتيه بالأخبار ليس إلا من يعيش في كنفه ويرغد من عطاياه و هباته . إذا كانت كتابة التاريخ بهذا الخطر ، فما بالك بكتابة الفقه والفتاوى والشريعة ، ولكن رحمنا الله بأن جعل لها مرجعاً حق وأن لدينا علماء نحسبهم والله حسيبهم ، وقد نالوا فضلاً من الله فحملوا أمانة أشفق منها الكثير فعسى الله يعينهم على قول الحق ، والمصيبة إن فرطوا وخانوا هذه الأمانة العظيمة . إن الصحافة تمثل شيئاً من التاريخ ، فأرشيفها تاريخ ، ولذلك كان من الجميل أن نرى صحافة فيها وطن و مواطن وحاكم ينصفون حق الإنصاف في كتابة تاريخهم ، فنذكر الحسن للتحفيز ونذكر السيئ للتقويم والتذكير ، بقلم منصف صادق صالح ، وليس اعتداء ولا تصفية حسابات . ألقاكم بحال أفضل عبدالرحمن بن محمد الحيزان