في مكان ما في هذا العالم الواسع عاش شاب أحب قشطة التاج , ومع مرور الأيام كان هذا الحب يتطور لدرجة العشق والهيام . كان الجميع عندما يذكرون اسم شليويح يقرنونه بعشيقته القشطة , ولطالما سأله مجتمعه عن سبب هذا الهيام اللا متناهي فكان رد شيلويح دائما هو الصمت المطبق , لأنه حتى هو نفسه لا يعرف سبب هذا الهيام. لا يكاد يمر يوم إلا وهو يمتع ناظريه برؤية علبة قشطة التاج ويروي عطش روحه بتقليبها بين يديه بل وربما تقبيلها . كم تمنى دائما أن يرى علبة قشطة التاج وقد أصبحت بحجم بيت ضخم يستظل بظله ويعيش ما تبقى من حياته داخل هذه العلبة الكبيرة . أصبح شليويح يقر بفضل كل من يقدر قشطة التاج , بل تطور به الأمر أن يقف احتراما لكل من يتكلم عن هذه القشطة المعشوقة ويطرح التصورات المستقبلية لتكبيرها وتضخيمها. بدأ العديد ومنهم أقرب الناس له يحاربونه ويحاولون تشويه هذه الصورة الرائعة في مخيلته عن قشطة التاج , تارة بالترهيب من أن هذا الهيام ربما سيتحول إلى ضرب من الجنون , وتارة أخرى بالسخرية اللاذعة والتحقير. مرت الأيام وتواصلت معها كل ضروب التفنن ممن هم حوله لجعل هذا الارتباط ينفك للأبد ومن غير رجعة . رضخ شليويح للأمر الواقع وبدا وهج هذا الهيام يخبو , وشعلة هذا الارتباط تنطفئ للأبد . برغم ذلك لم يقتنع مجتمعه بوأد هذا التعلق القديم , بل قدموا له علبة قشطة التاج ليسحقها أمام ناظريه كنوع من القتل البشع اللا إنساني . كابر شليويح كثيرا ولكنه رضخ للأمر الواقع في النهاية وقام بسحقها بكل برود فقد تحجر قلبه ومات كل شي في قلبه تجاه هذا العشق القديم. كانت الصور الجميلة والذكريات الرائعة لعلبة قشطة التاج تطارده في منامه , حتى وإن اختفت من واقعه . تردت حالته النفسية كثيرا وأصبح يعيش على هامش الحياة بعد فقد هذا العشق القديم الذي عاوده بعد موت المشاعر . أصبح شليويح ضيفا مترددا على العيادات النفسية والتي لم يجد فيها ما يحل هذه العقدة القوية في حياته. في عصر يوم بارد الانسام , خرج شليويح لشاطئ البحر لعله يتنفس هواءه المنعش ويريح نفسه المتعبة . كان يجلس مادا نظره إلى الأفق البعيد بطول البحر الهادئ . أثار البحر بغموضه الغريب وهدوءه الحزين شليويح والذي وضع رأسه بين كفيه باكيا بنشيج يقطع نياط القلوب . فجأة جلس بجانبه شيخ قد حفر الزمن تجاعيده على وجهه وبصوته الوقور قال له : فلتبك يا بني لعل البكاء يخفف عنك ما تحمله في قلبك من هموم لعلك تجد الراحة والفرح. رد عليه شليويح بصوته المتهدج وهو مازال واضع رأسه بين كفيه : كيف تريدني أن أفيق على صوتَ الفرح وخفقات نبض قلبي لآ تعرف إلا الشقاء .؟ كيف تريدني أن أنعم بالراحة وأنا أقيمَ بهذه الأيام وأنا دائم الترحال برحلات لا تعرف الاستقرار ؟ تعسا لهذا الحنين ، فهو يعيدني إلى أشيائي القديمة ولا يعيدها لي,,, رد عليه الشيخ قائلا : يا بني مهما كانت الضغوط فلا تدعها تهزمك في ذاتك وتفقدك الأمل . يا بني حينما ترى الدنيا تمشي وأنت واقف , حين تتأمل الماضي والحاضر..ولا تجد من يحس بك..عندما يكون لك حلم صغير ليس بالمستحيل وهو من أبسط حقوقك في الدنيا , وحين يقف كل البشر في وجهك بكلمة "لا" لن نمنحك هذا الحلم الصغير..وفي عنفوان معركتك معهم ولا تجد من يساندك..فلتصرخ عاليا قائلا كفى , وليسمع ذاتك صوتك . وعندها سوف تبتسم كما يفعل الكثير . شليويح : ولكن ليس كل مبتسم سعيد، فوراء الكثير من الابتسامات الم شديد , و ليس بالضرورة أن الذي يؤلمني يؤلم سواي.. فالكثير قد تجاوز مرحلة الألم.. ودخل في مرحلة التبلد واللامبالاة , ما أصعب أن تستوعب يوماً أن كل ما مر بك من مواقف أخذ جزءً منك ومضى , والأدهى أن تحسب أنك تجاوزتها بالفعل ولكنك ميت في داخلك. الشيخ : يا بني ليس لزاما أن تتوقف أنفاسك وٍيتوٍقف قلبك ويعلن جسدكَ توقفه عن الحركة للأبد كيّ يقال أنك .. فارقت الحياة , فالكثيرٍ من البشر يتحرٍكوٍن ويتحدثوٍّن ولكنهم في الواقع موٍتى .. يقضون الحياة بلا حياة. فأنت مازلت حيا تملك الكثير من الأحلام الجميلة الرائعة ولديك المشاعر الصادقة. شليويح : ولكن الكثير من الأحلام ليست مجانية فثمنها العمر. وهناك أناس لديهم القدرة على تحطيمك و إعادة ترتيب أحلامك من جديد ، فقط لأن حلمك لم يستوعبوه وأما بالنسبة لمشاعرك المتعبة فهم لن يبالوا بها أبداً. لقد علمني المجتمع بأن استمع أكثر مما أتكلم واحتجوا بأن الله قد خلق لي أذنان وفم واحد . ولكنني اكتشفت بأن الكبار والمسئولين يتكلمون بما لا يعلمون ولا يعرفون حتى فن الاستماع .. ولا وقت لديهم للاستماع لهمومك الصغيرة . لقد علموني الكثير والكثير ولكنني اكتشفت النقيض , لقد علموني بأن العمل شرف ولو كنت زبالا في وطنك واكتشفت أن هناك الآلاف من المهن الراقية للأجانب مع وجود نفس مؤهلاتهم وربما أعلى لدى شبابنا . لقد علموني بأن الحياة مزيج من الأخذ والعطاء ولكنني اكتشفت بأن الكثير يكتفون بالأخذ فقط . لقد علموني بأن المجتمع هو جماعة من الناس يجمعها الدين والانتماء المخلص ولكنني اكتشفت أن هذه الجماعة تفرقها المصالح والأموال .لقد علموني بأن التأدب هو أن تصغي إلى من يحدثك ولكنني اكتشفت أن التأدب هذه الأيام أن تصغي إلى من يحدثك بكبرياء في موضوع تعرفه جيدا ويجهله هو . لقد علموني بأنني ابن شعب متكافل متراحم. وأننا شعب غني نتبرع لكل فقراء العالم . ولكنني اكتشفت أنني وأمي وأخواتي الخمسة كنا ننام الليل يطوينا الجوع . لقد علمني مجتمعي أن الله قد فضل بعضنا على بعض في الرزق ولكني اكتشفت أن رزقنا البسيط من الجمعيات الخيرية والشئون الاجتماعية يتناهبه الأغنياء قبل الفقراء من غير وجه حق ,ويكمل تعاستنا بهذا الرزق موظفون يريدون أن يثبتوا أن التفضيل موجود حتى في لقمة الفقير . لقد علمني مجتمعي بأن المسئول سوف يحاسب أمام ربه عن ما تولاه ولذلك يجب أن يستمع لمن يلي أمورهم ولكنني اكتشفت بأن المسئول في سبات عميق وعقله مبنج بإبر أهل المدح الزائف الرخيص. قلوب منكسرة,أطفال يتامى , شباب عاطلون , أحلام حطمت بمباركة المجتمع , وآخرين ضائعين في دهاليز المسئول لا يعرفون أين يذهبون , ومسنون قد أنهكتهم الحياة لم يجدوا من يواسي قلوبهم من شرخ الأيام وهم يرون أبنائهم الشباب في مرمى الاتهام دون إصلاح أو نظر .لا أدري أأعيش ما تعلمته أم ما اكتشفته ؟ الشيخ : يا بني لا تنتظر طوال حياتك شخصا يأتي لينقذك ، ويجعلك تنطلق ، ويناصرك ، ويدرك قيمتك ، ويفتح لك أبواب الحياة . إنك الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يفعل ذلك ، و إلا فسوف تظل حياتك بلا معنى . يا بني لا تعش دائما داخل أسوار ذكريات الماضي . حاول أن تقبل ذاتك كما هي , إن راحة البال تكمن في قبولك الأشياء الجيدة لديك ولتعلم أن الخطأ والظلم لن يدوم طويلا فله نهاية قاسية وإن بدت مستحيلة . يا بني لا تتخلى أبدا عن أحلامك فإن كثير من حالات الفشل كانت لأناس لم يدركوا كم هم كانوا قريبين من النجاح عندما أقدموا على الاستسلام . أطبق الصمت ولا شي غير الصمت لفترة طويلة. هنا رفع شليويح رأسه المثقل بالهموم نحو الشيخ وقد اغرورقت عيناه بالدموع وقال : على الأقل لم أقتل إلا حلم واحد يخصني فقط وبمباركة مجتمعي , ولكن كم من أحلام قتلها هؤلاء لأناس كثر ؟ وليعلموا بأنهم إذا ذهبوا إلى فرشهم الوثيرة يغطون في نوم عميق فهناك أعين كثيرة لم تنم ترسل سهام الليل محملة بالشكوى إلى من لا تنام عينه. قام شليويح يجر خطاه المثقلة وقد أزفت الشمس إلى الغروب ليختفي عن أنظار الشيخ إلى الأبد. لم يعرف احد عن ما حدث لشيليويح بعد ذلك سوى أنه عاد لحبه القديم - قشطة التاج - وجعل شعاره ( إذا كان لك حلم فلا تقتله ولا تسمح لأحد بقتله ) . ناجي بن مساعد