يقول الفنان العراقي الكبير ، كاظم الساهر : عندما قرأت كلمات قصيدة ( أنا وليلى ) بحثت عن شاعرها خمس سنوات ، وأخيرا نشرت نداء عبر الصحف أستفسر فيه عن الشاعر . ذات يوم ، قابلني رجل بدت على وجهه سمات العذاب الأليم ، أخاديد من عذابات السنين تختزلها سمرة تحيط عينيه ، وكذا نحول في جسمه ، ومرارة حزن عات يبدو على تصرفاته ! قلت له : من أنت ؟ فقال : أنا صاحب القصيدة.( استبعدت ذلك تماما لعظمة وقوة القصيدة ، وضعف وهوان الرجل) . واستكمل حديثه قائلا : أنا حسن المرواني ، لست شاعرا ، ولكني كتبت قصة وحيدة ، لم أقل غيرها من قبل ، ولن أقول غيرها من بعد . أنا عراقي ، من مدينة ميسان ، من عائلة فقيرة ، كنت أشقى في كل عمل ، لأجمع تكاليف الدراسة . تفوقت ، فاندفعت بشغف للتعليم .تعرفت على فتاة متوسطة الجمال ، تليق بحالتي المتدنية ماديا ، أحببتها ، وبدى لي أنها تبادلني نفس الشعور .، همتُ بها هياما شديدا ، واتفقنا على الزواج بعد التخرج مباشرة .في آخر أيام السنة الأخيرة ، أتت ليلى ومعها خطيبها ممسكان بأيدي بعضهما . وهنا : يكمل كاظم الساهر القصة ، قائلا : انصدم حسن المرواني الشاعر المحب الفقير ، وترك الدراسة ردحا من الزمن . ولكن إدارة الجامعة لم تطوِ قيده ، لفقره وحسن خلقه . ثم كان يوم التخرج ، وكانت لقاعة تعج بالحضور ، وفجأة حضر حسن المرواني ، وجلس وسط الحضور ، ليرى ليلى عن يمينه مع خطيبها ، حبس دمعة مخنوقة في عينيه ، وفجأة تدلى ميكرفون ، وصدح متقدم الحفل ايقول : أيها الحضور الكريم ، ستسمعون الآن قصيدة الخريج حسن المرواني .تلعثم المرواني قليلا ، ثم قام وأخذ المايك بيده وبدأ القصيدة قائلا : سألقي عليكم قصيدتي الأخيرة في هذه المسيرة . والتفت يمنة ، كانت خطيبته واقفة بجوار خطيبها الجديد ، وقال : ماتت بمحراب عينيكِ ابتهالاتي واستسلمتْ لرياح اليأس حالاتي جفّتْ على بابكِ الموصودِ أزمنتي ليلى وما أثمرتْ شيئا ندائاتي! فبكت ليلى ، وقامت وقعدت على المقعد الأخير في تلك القاعة ودموعها تحرق مآقيها ، نظر حسن المرواني إليها من جديد ، ونظر إلى خطيبها خلسة ، واسترسل قائلا : عامان ما رفّني لحنٌ على وترٍ ولا استفاقتْ على نورٍ سماواتي أعتِّقُ الحب في قلبي ، وأعْصرهُ فأرشف الهم في مُغْبَرِّ كاساتي ! وهنا اغرورقت عينا حسن المرواني بالدموع ، فأكمل قائلا : ممزّقٌ أنا ، لا جاه ، ولا ترفٌ يغريكِ فيَّ فخلّيني لآهاتي ! لو تعصرين سنين العمر أكملها لسال منها نزيفٌ من جراحاتي ثم أشار إلى ليلى بسبابته واسترسل قائلا : لوكنتُ ذا ترفٍ ما كنتِ رافضةً حبي ولكنّ ضعف الحال مأساتي !َ عانيتُ عانيتُ لا حزني أبوح به ولستِ تدرين شيئا عن معاناتي! أمشي وأضحك يا ليلى مكابرة علّي أخبي عن الناس احتضاراتي لا الناس تعرف ما أمري فتعذرني ولا سبيل لديهم في مواساتي! يرسو بجفني حرمانٌ يمصّ دمي ويستبيح إذا شاء ابتساماتي ! معذورة ليل إن أجهضت لي أملي ما الذّنبُ ذنبُكِ بل كانت حماقاتي أضعتُ في عرب الصحراء قافلتي وجئتُ أبحثُ في عينيكِ عن ذاتي وجئتُ أحضانكِ الخضراء منتشيا كالطفلِ أحملُ أحلامي البريئآتِ! غرستِ كفّيْكِ تجْتثّين أوردتي وتسحقين بلا رفقٍ مسرّاتي! واغربتاه ! مضاع هاجرتْ مدني ! عني ، وما أبحرتْ عنها شراعاتي نُفيتُ واستوطن الأغرابُ في بلدي ودمّروا كل أشيائي الحبيباتِ! عند هذا البيت ضجّت القاعة بالبكاء ، ولاسيما ليلى التي كادت أن تجن ،وهنا التفت حسن إلى ليلى مشيرا إليها قائلا : خانتكِ عيناكِ في زيفٍ وفي كذبٍ أم غرّكِ البهرجُ الخدّاع مولاتي ؟ والتفت إلى خطيبها الجديد وأنشد قائلًا : فراشة جئتُ ألقي كُحْلَ أجْنحتي لديكِ ، فاحترقتْ ظلما جناحات! أصيحُ والسيف مغروز بخاصرتي والغدرُ حطّم آمالي العريضاتِ ! فقامت ليلى منفعلة وقالت : أرجوك حسن يكفي ، فلقد أرغموني على الزواج من ابن عمي ، وهي عادة عربية ، إذ كان العربي يدفن ابنته حية في قبرها ، ولكنهم تغيروا ، فأصبحوا يتفننون في تعذيبها أكثر ، إذ يحرمونها ممن تحب ، ويجبرونها على من لا تحب . فواصل حسن المرواني شعره وقال : وأنتِ أيضا ، ألا تبّتْ يداك إذا آثرتِ قتليَ واستعذبتِ أنَّاتي ! من لي بحذف اسمكِ الشفاف من لغتي إذنْ ، ستمسي بلا ليلى حكاياتي وهنا أغمي على ليلى ، وحملوها خارج القاعة ، بينما تسلل المايكرفون من يد حسن ، وغادر القاعة ، وغادر الجامعة ، وغادر بغداد ، وغادر العراق ، ليستقر في الإمارات العربية المتحدة ستة عشر عاما . وأخيرا عاد إلى العراق ، وزار جامعة بغداد ، ليجد قصيدته الوحيدة وقد خطّت على جدار الجامعة ، تخليدا لتلك الذكرى الأليمة التي ولدت مثل هذه القصيدة الفريدة.