إبراهيم يروي لحظات انتظاره "القصاص" أو العفو كنتُ في حالة غضب، لم أفكر في شيء سوى الاستجابة لنزوات الشيطان، سقط خصمي قتيلاً أمامي، خلاف أسري قادني لأقبع خلف القضبان مكملاً عامي الخامس هنا، حُكِمَ عليَّ بالقصاص، وأنا الآن أترجى الشفاعة من الله، ثم من أهل الخير في عتق رقبتي"، بهذه المفردات بدأ السجين إبراهيم أحمد المويس -35عامًا- حديثه إلى"الوطن" التي التقته في سجن الأحساء، وقضت معه وقتًا حمل تفاصيل كثيرة عن حياته وزملائه داخل السجن، بعدما حُكِمَ عليه بالقصاص، فيما هو ينتظر "رحمة ربانية" تحط عليه من السماء العالية. بوابة الدخول عندما دخلنا سجن الأحساء، بعد أخذ الإذن من مدير عام السجون في المملكة، اللواء الدكتور علي الحارثي، وبتنسيق مع الناطق الإعلامي المقدم الدكتور أيوب بن حجاب بن نحيت، لم نتوقع أننا سنواجه هذه التنظيمات المحكمة الدقة، في إجراءات التفتيش والحراسة المشددة، وهي إجراءات لم نستثن نحن منها، فتم سحب هواتفنا النقالة وإيداعها في الأمانات، وكلما دخلنا من باب يتم غلقه جيدًا ويفتح الذي بعده، حتى التقينا السجين "إبراهيم" الذي لم يمانع من اللقاء وسمح لنا بتصويره، دون تحفظ منه أو ممانعة على إبداء ملامحه، حيث وجدنا أنفسنا داخل مكتب أحد الضباط، وبرفقة أحد الجنود، وكان الهدوء سيد السجن هناك. بعدها، غادر الضابط مكتبه، وأخذت "الوطن" تتناول أطراف الحديث مع إبراهيم. من باب الأمانة المهنية، فإنه لم تفرض علينا أسئلة بعينها من إدارة السجن. كانت حرية الحوار مفتوحة. سألنا السجين عن معاملة العسكر والضباط للسجناء، وعن الخدمات المقدمة، بدءا من الإرشاد الديني والدراسة، والوجبات والزيارات والنظافة، فكان جوابه بأن "كل شيء موفر هنا ونعيش كما الخارج، إلا أننا نبقى داخل سجن بين قضبان الحديد"، قاطعته بقولي له: يا إبراهيم لا تجامل، ليجيبني سريعا "لماذا أجامل، وأنت تعرف أن حياتي قاب قوسين أو أدنى؟ لا شيء يمكن أن أخسره حتى أقول غير الحقيقة"، مضيفا "لكن اسألوا الله تعالى ألا يأتي بكم هنا، فهو مكان لا يقوى على الحياة فيه إلا صاحب خطيئة، وإلا فما أجمل الحرية في الخارج". كيف جاء؟ يا إبراهيم ما الذنب الذي اقترفته لتكون هنا؟ يجيب والدموع تملأ عينيه "هذا حدث بسبب خلاف أسري مع جاري، وتحديدًا في عام1427، وبنزوة شيطانية لم أفكر فيها، وبعد أن احتدم النقاش ووصل إلى ذروته بعد المضاربة، قمت بطعن خصمي بسكين، سقط على إثرها ونقل إلى المستشفى، وتوفي بعد يومين، ولكن لم تكن عندي نية الشروع في القتل، ولكنه الهيجان والصرعة التي تجعل الإنسان بعيدًا عن التحكم في أعصابه، ويستجيب إلى دعوات شيطانية، وها أنا كما تراني نادم على تلك اللحظة، فقد تمنيت أنني مت في ذلك اليوم، ولا أكون في هذا الموقف، فالقتيل أولاده كلهم كبار، ولم يرغبوا في التنازل بعد، رغم تدخل الوجهاء وأصحاب الشأن، وكل ما أطلبه من الله تعالى هو التوبة عليَّ، وتيسير الأمور لعتق رقبتي بواسطة أهل الخير". حديث الرجل هذا، أتى ممزوجا بدموعه التي تغالبه، وعاطفة خاصة تجاه والدته، التي حكى عنها لنا، مضيفا "هناك أمي تنتظرني، والعذاب نحلها وهي تبكي ليل نهار، سائلة المولى عز وجل، أن يفرج عني، كما أناشد خادم الحرمين الشريفين، أعاده الله سالمًا ومعافى، و ولي عهده الأمين، والنائب الثاني أن ينظروا لي بعين الشفقة والرحمة، وأن يكونوا فأل خير بشفاعتهم"، أمنية بعثها أمانة تحملها "الوطن"، ونحن ننقلها بحيادية تامة، دون تدخل منا في الموضوع. قضاء الوقت في الانتظار، وفي داخل السجن، لا يقرأ إبراهيم ولا يكتب، لكنه تعلم في حلقات القرآن الكريم، وهو يقضي وقته في قراءة كتاب الله، بانتظار أحد الأجلين، إما العفو أو القصاص. لكنه ومن خلال حديثنا معه، أظهر رباطة جأش، وما أسماه "الطمع في رحمة الله تعالى"، مستشهدًا بقوله تعالى ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله). نصيحتي للشباب قبل أن ننهي لقاءنا مع "إبراهيم"، اتجه إلى القبلة ودعا ربه بدعاء منكسر حزين، وهو يطلب العفو منه والتوبة وتفريج كربته، موجهًا نصيحته إلى الشباب خصوصًا، بأن لا يستجيبوا ببشارة الشيطان ويخرجوا إليها سعيًا، بل يستعينوا على ذلك بالقرب من الله تعالى وملازمة صلاة الجماعة في المسجد، والابتعاد عن رفقاء السوء، و"طاعة الوالدين وتقبيل أياديهما" لتحصيل البركة، محذرا من التماهي مع ما يحدث من مشكلات وجرائم مجتمعية، ف"السجن يضم شريحة كبيرة من الشباب، نتيجة تعاطي المخدرات والسرقات والمحرمات"، مضيفا "أنصحهم بمتابعة أخبار التائبين، الذين قضوا في السجن زمنا وندموا على فعلتهم"، لأن في ذلك عبرة لمن أراد أن يعتبر. القصاص حياة رئيس محاكم الأحساء الشيخ سامي بن فهد الحادي تحدث إلى "الوطن" عن القصاص "الذي فرضه الله تعالى في الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه كتب علينا القصاص وأوجبه علينا في المقتولين، فلا يجوز لولي المقتول أن يتعدى على غير القاتل، كما كانوا يفعلون في الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عزة ومنعة فقتل عبد قوم آخرين عبدًا لهم، قالوا لا نقتل به إلا حرًا تعززًا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت لهم امرأة قتلتها امرأة قوم آخرين قالوا لا نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي، لأن دم المقتول مساوٍ لدم القاتل ولا يتعدى على غيره، وقال سبحانه ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ففي هذه الآية بيان للحكمة من مشروعية القصاص حيث تحقن الدماء وينقمع الأشقياء"، كما جاء في حديثه، مركزا على أهمية العدالة في "القصاص" والأحكام، وعدم تجاوزها في غير حدودها. القصاص لولي الأمر وأكد الشيخ الحادي أن "القصاص هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، قتل أو قطع أو جرح، فيشمل النفس وما دونها، وفي القصاص حياة، أي حياة الناس في الدنيا وبقاؤهم فيها، لأن الذي سيقدم على قتل غيره يعلم أنه سيقتص منه فيزجره ذلك عن القتل"، مضيفا في حديثه لنا "إذا أقيم القصاص ارتدع الناس عن الاعتداء على غيرهم، فصار القصاص سببًا لحياتهم، وينعمون بالحياة الطيبة في الدنيا، وذلك لأنهم مطمئنون على أنفسهم، من أن يعتدي عليهم أحد، ولو اعتدى أحد فإن مصيره القصاص، فهم محميون بشرع الله، ثم بمن يطبقون شرعه من عباده وهم أئمة المسلمين". من جهة أخرى شدد الحادي على مسألة هامة، وهي أنه "لا يجوز لأحد أن يقتص لنفسه أو لغيره، دون ولي الأمر". وفيما يختص بفلسفة هذا التشريع الإلهي، اعتبر أن "القصاص أيضًا حياة للجاني في الآخرة، لأنه إذا اقتص منه في الدنيا، لم يقتص منه في الآخرة، وفي ذلك حياته. وإذا لم يقتص منه في الدنيا، اقتص منه في الآخرة"، وذلك بمقتضى العدالة الإلهية. آثار إيجابية النقد الذي تتجه به بعض الجهات الغربية ل"القصاص" يرفضه الشيخ سامي، مشددا على أن ل"القصاص آثارا على الفرد والمجتمع، ومنها حماية المجتمع من الجريمة، وتحقيق العدالة بين أفراد المجتمع، ومعاقبة الجاني دون غيره، ومراعاة للحالة النفسية لأولياء المجني عليه، ويطهر الجاني بالقصاص، و هو حياة للفرد والمجتمع"، مضيفا أن "هذا ظاهر جلي، حيث بدت آثار إقامة حد القصاص في المملكة وذلك باستتباب الأمن حتى صارت مضرب المثل في قلة الجرائم، والقصاص في المملكة يقوم بشرع الله، والقضاة مهيؤون للنظر في جميع القضايا". قضاة القصاص ولأهمية الموضوع، وحساسيته، وكونه يرتبط بحياة الناس، فقد أكد الشيخ الحادي أن "القصاص ينظر فيه من قبل ثلاثة قضاة، وبعد الحكم يرفع إلى محكمة الاستئناف، وإذا أيد الحكم رفع إلى المحكمة العليا، وإذا أيد الحكم رفع إلى المقام السامي للأمر بإنفاذ ما تقرر شرعًا. أما المحكوم عليه فهو مهيأ نفسيًا منذ إحالته إلى المحكمة، حيث يتم النظر في القضية وتعرض عليه دعوى المدعي الخاص ويتم ضبطها وتؤخذ إجابته عليها، ومن ضمن الدعوى المطالبة بالقصاص -أي قتله قصاصًا- وهو يعلم إن كان مسلمًا أن القاتل يقتل، فهو مهيأ من الناحية الدينية، أما غير المسلمين فهم يعرفون أنظمة المملكة قبل القدوم إليها، والحكم يتلى علنًا على المحكوم عليه، ويسبق ذلك تهيئة ببيان أن هذا الحكم هو ما رآه أصحاب الفضيلة حسب البينات من اعترافات أو شهادة شهود، وأنه حكم أولي ويفهم بحقه الاعتراض على الحكم ويعطى نسخة من الحكم لإعداد لائحة اعتراضية عليها، ترفع إلى محكمة الاستئناف لتدقيق الحكم". الصلح خير ولكن، ماذا عن الصلح، وإيجابياته التي يؤيدها كثيرون؟ يجيب الشيخ سامي "أما الصلح فهو كله خير، حيث يعرض عليهما الصلح (طرفي القضية) ويرغب فيه"، مبينا أنه "أجمع أهل العلم على جواز العفو عن القصاص، وأنه أفضل لقوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة)، والعفو مجانًا، فهو أفضل لقوله تعالى ( فمن تصدق به فهو كفارة له)، وقوله تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وكان النبي – صلى الله عليه وسلم - لا يرفع إليه أمر فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو – رواه الخمسة إلا النسائي، ويصح الصلح على القصاص بدية أو أكثر قبل الحكم وبعده، وباب الصلح مفتوح إلى ما قبل التنفيذ، فإذا اصطلحوا على التنازل عن القصاص أوقف التنفيذ فورًا، ولو كان في ساحة القصاص". وصية قبل التنفيذ وأما الوصية فيشخص أحد القضاة إلى السجن، ويتم ضبط وصية القاتل وتوجيهه ونصحه وتذكيره بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله. يقول الشيخ الحادي، مضيفا "أما القضاة فهم آمنون مع أن أسماءهم معروفة، فنحن في بلد آمن يطبق شرع الله، وما يتداول عن حوادث -إن صحت- فهي قليلة ونادرة، والنادر لا حكم له". القصاص بالسيف ويؤكد الحادي أنه "لا يجوز استيفاء القصاص في النفس إلا بالسيف في العنق، لقول الرسول (لا قود إلا بالسيف)، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام أحمد. والقول الثاني يجوز أن يقتله بمثل ما فعل به، وهو قول الإمام مالك والإمام الشافعي". 1