تعزيز الصحة أمر سهل ممتنع. هدفه مساعدة الناس على تبني أسلوبً صحيً في الحياة .. في مطعمهم ومشربهم ومسكنهم، في الماء الذي يشربون والهواء الذي يتنفسون، وفي عوامل البيئة المحيطة بهم . ليس ذلك فحسب .... وإنما أيضاً في تعاملهم مع الحياة والناس. علنا نتذكر تعريف منظمة الصحة العالمية للصحة حيث قالت: "الصحة ليست مجرد الخلو من المرض ولكنها التكامل الجسدي والنفسي والاجتماعي". ولأنى سبق أن تحدثت كثيراً في موضوع تعزيز الصحة فإني استميح القارئ عذرا في أن أنقل إليه فقرات عن تعزيز الصحة من كتابي "نحو صحة أفضل" *مع شيء من التصرف. " الذي نستخلصه من الدراسات والبحوث الطبية أن أسلوب الحياة الذي ننتهجه في مأكلنا ومشربنا وتعاملنا مع البيئة وعلاقاتنا الاجتماعية والإنسانية، هو العامل الأساس الذي يؤثر سلباً أو إيجاباً على صحتنا الجسدية والنفسية والعقلية، ومن هنا كان تعزيز الصحة أمر سهل لأنه في متناول يد كل إنسان. وصعب لأن تغيير السلوك البشري من أكثر الأمور تعقيداً. تحول دونه معتقدات وموروثات وعادات وتقاليد وظروف بيئية. وأضرب لذلك بضعة أمثلة.
------------------------------------ * زهير أحمد السباعي. نحو صحة أفضل (198-201). جدة: سلسلة الطب والحياة 2003م. - ينتشر مرض البلهارسيا في بعض المجتمعات لأن مرضى البلهارسيا يفرزون فضلاتهم في تجمعات المياه ومجاري الأنهار. ويأتي الأصحاء فيسبحون أو يخوضون في الماء الملوث فينتقل إليهم المرض. سلوك بشري خاطئ يسهل تفاديه لو كان لدينا الثقافة الصحية الكافية. - ينتشر في بعض المجتمعات مرض السل لأن أهل المريض يرون من العيب أن يؤخذ مريضهم إلى مصح وهم –كما يظنون- أولى بالعناية به. - انتشرت الكوليرا في الريف المصري في الأربعينات من القرن الماضي لنفس السبب .. مرة أخرى سلوك بشري خاطئ. - وما ارتفاع معدل حوادث السيارات في بلادنا إلا نتيجة أخطاء بشرية لدى السائق والسائر على قدميه على السواء. - في السنوات الأخيرة انتشرت أمراض القلب والسكري وارتفاع ضغط الدم والتهاب المرارة وحصواتها واضطراب القولون. وجميعها مشاكل صحية نتجت عن الغذاء غير الصحي، وقلة الحركة، وزيادة ضغوط الحياة. أكثرنا يعرف ذلك ومع هذا فسلوكنا غير الصحي مستمر. ما زلنا نأكل أكثر مما نحتاج، ونستعمل السيارة والمصعد أكثر مما يجب، ونهمل الحركة والرياضة، ونستجيب لظروف الحياة بمزيد من التوتر والقلق. - بعد محاضرة ألقيتها عن مضار التدخين. خرجت إلى الصالة الخارجية فوجدت منسقو المحاضرة يدخنون. أخشى أن أقول أن محاضرتي تلك نموذج لبرامج التثقيف الصحي التي تقف عند حدود تغيير المعلومة ولا تتعداها إلى تغيير السلوك. لو أننا نظرنا إلى الأمراض لوجدنا أن العامل الأساس وراء حدوثها وانتشارها ما هو إلا سلوك بشري خاطئ. ولو أن الإنسان علم أسباب الأمراض وعمل بما علم لتفادى أكثرها، ولعاش حياة صحيحة مديدة خالية أو تكاد من الأمراض. لب الموضوع هو كيف نصمم برامج التثقيف الصحي التي تنتهي بتغير السلوك ولا تقف عند حد إعطاء المعلومة .. هذا هو تعزيز الصحة الذي ندعو إليه. في العقود الثلاثة الأخيرة عقدت منظمة الصحة العالمية عدة مؤتمرات، أطلقت من خلالها مفهوم "تعزيز الصحة" . ذكر فيها أن أفضل وسيلة لتطوير الوضع الصحي في المجتمع – أي مجتمع – هي أن يشارك أفراد المجتمع في تخطيط البرامج الصحية وتنفيذها وتقويمها، إذ أن ذلك أدعى إلى أن يتفاعلوا معها ويتبنوها. مشاركة المجتمع في الرعاية الصحية تعني ضمناً أن يكون الفرد مسئولاً عن صحته، وأن يتهيأ لحمل هذه المسئولية بكافة الوسائل. وليس أصدق من المثل السائر ..الإنسان طبيب نفسه. الصحة قضية مشتركة لا تتحمل مسئوليتها وزارة الصحة وحدها وإنما يشاركها في تحمل المسئولية عشرات الأجهزة الحكومية والأهلية. كما أن الصحة ليست فقط هدفاً اجتماعياً وإنسانياً، وإنما هي أيضاً استثمار اقتصادي. فالمجتمع الذي يتمتع أفراده بمستوى جيد من الصحة الجسدية والعقلية والنفسية أكثر قدرة على الإنتاج، وهناك أمثلة كثيرة لمشاريع صناعية أو زراعية فشلت نتيجة وجود وباء في منطقة المشروع، ولما قُضي على الوباء نجح المشروع. الأمثلة التي يمكن أن تضرب لتوضيح العلاقة بين الصحة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لا يحدها حصر. فكثير من المشاريع الإنمائية كالإسكان وإنشاء السدود وإزالة الغابات تنعكس نتائجها سلباً أو إيجابياً على صحة الفرد والمجتمع. أقرب مثل يحضرني من اليابان. عندما خططت اليابان لمكافحة مرض البلهارسيا قدرت ما يمكن أن يضفيه مشروع المكافحة من زيادة في قدرة الفرد على الإنتاج، وبالتالي على الناتج القومي. وبنت خططها لمكافة المرض على هذا الأساس. ونجح مشروع المكافحة. في الوقت الذي تعثر فيه مشروع مكافحة البلهارسيا في كثير من الدول النامية لأن القوم تصدوا له من منطلق اجتماعي وإنساني فقط، قامت به وزارات الصحة ولم يشاركها الاهتمام نفسه الجهات المسئولة عن الاقتصاد والتنمية الاجتماعية. بيت القصيد في حديثي هو أن أي تطوير حقيقي للصحة في أي مجتمع لا يمكن أن تقوم به وزارة الصحة إن لم يكن بينها وبين جميع الأجهزة الأخرى ذات العلاقة بالصحة تنسيق وتناغم وهدف مشترك. والأجهزة الأخرى التي أعنيها تشمل فيما تشمل وزارات المال والاقتصاد والتخطيط والتعليم والبيئة جنباً إلى جنب مع القطاع الأهلي. في شهر مارس من هذا العام (2010م) عقدت الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع بالتعاون مع الأمانة العامة لمجلس وزراء الصحة لدول الخليج وجمعية تعزيز الصحة مؤتمرها الخامس بعنوان "تعزيز الصحة". شارك في المؤتمر متحدثون من داخل المملكة وخارجها. وكانت توصيتي في المؤتمر هي أن يجمع وزراء الصحة في دول الخليج أمرهم ويرصدوا 2.5% من ميزانية الصحة في دولهم لمشروع تعزيز الصحة. على أن يقوم على هذا الأمر رجال ونساء أمناء أقوياء يطبقون مفاهيم تعزيز الصحة بأسلوب علمي، وأنا لهم ضامن أن لن يمر عقد من الزمان إلا وقد أرتفع مستوى الصحة في دول الخليج بما لا يقل عن 25% نتيجة لهذا الإجراء وحده .. فهل من مستجيب ؟