سُئلت كثيرا منذ وقع اختياري على الطب النفسي تخصصا (وانا أعمل به قرابة 3 أعوام).."هل هناك أصلا ما يسمى بالمرض النفسي .. أليس الاكتئاب مجرد علامة للبعد عن الله؟؟.. أليس علاج المشكلات النفسية الأوحد..قراءة القرآن والقرب من الله؟". في البداية لا أعلم لماذا يربط الناس كلمة المرض النفسي بالاكتئاب فحسب .. وان كان من أكثرها شيوعا.. لكن هناك العشرات من الأمراض النفسيه تحوي تحتها مئات الأنواع .. ما أن يطرح هذا السؤال حتى أتناسى عشرات الحالات التي أراها بالعيادة.. وأتذكر أول مرة واجهت فيها اكتئابا حقيقيا.. عندما كنت طالبة بكلية الطب...تحضرني صورة صديقة لي هي من أحكم من عرفت.. ففكرها العميق يميزها عن الكثيرين.. خلوقة.. ذكيه.. متفوقة ومميزة دائما.. اتصلت بي يوما باكية... تطلب مقابلتي للحديث معي.. وبدأت حديثا باكيا عن كونها "أسوء الناس" وراحت تستشهد بكل حادثة منذ طفولتها لتقنعني كم هي سيئة وجديرة بالاحتقار.. كانت تتحدث عن حياتها على انها سلسلة من الفشل المتواصل..رغم أنها تخرجت لتوها من الجامعة.. وبتفوق. حاولت أن أطيب خاطرها وأهدأ من غضبها على نفسها..حتى رحلت وهي تزعم أنها "تشعر أفضل بكثير".. لأجدها تتصل بي بعد أكثر من شهر .. تطلب مني أن أزوها "فورا".. ذهبت لبيتها فوجدت انسانة لا أعرفها... شديدة الشحوب بعد أن صارت جلدا على عظم.. فهي لم تاكل شيئا منذ مده حتى أن والديها كانا يطحنان الطعام ويسقيانها إياه بالاكراه. كانت ترفض كل شيء ..فلا تخرج من غرفتها ولا تأكل ولا تستحم ولا تصلي.. بل تجلس طوال اليوم على الفراش وتقسم أنها شر من شارون وأنها تستحق جهنم.. حين رأيتها.. أدركت معنى الاكتئاب الحاد.. لم تكن تفكر بأي منطق.. لم تكن تملك الطاقة لأي شيء ..إلا للعن نفسها.. وندب حاضرها ومستقبلها.. وكان ما أردته فذهبت لطبيب نفسي ووصف لها علاجا للاكتئاب... فرأيت الأثر بعيني.. لم يمض اسبوعان..حتى بدأت تعود كما كانت.. قامت تستحم وتصلي وتأكل .. وتغالب حزنها لتعود للحياة.. أدركت حينها أين كانت المشكلة.. لقد كانت في كيمياء دماغها.. كان ذلك اكتئابا بيولوجيا تماما..فالفتاة من أسرة مستقرة.. محبة معطاءه.. لها أصدقاء كثر .. ومستقبل واعد.. وهي كذلك مؤمنة.. مرتبطة بالله.. لكن الذي أصابها هو مرض (كالسكر والضغط وغيرها من الأمراض المزمنه).. مرض اختلال في كيمياء دماغها جعلها ترى العالم من خلال قناع أسود كئيب.. ليس الغالب أن يكون مرضى الاكتئاب كصديقتي هذه.. فالاكتئاب كغالب الأمراض النفسية متعدد الأسباب..تؤثر فيه الوراثة (فالذي يصاب أحد أقاربه المقربين بالاكتئاب هو أكثر عرضة للمرض من غيره) .. والبيئة ( من مشاكل أسرية ومالية).. كما أن بعض الأمراض العضوية (كنقص افراز الغدة الدرقية) قد يتسبب في أعراض الاكتئاب كذلك..يشبهها أحد كتب الطب النفسي بالجسر الذي تعبر عليه العربات.. فان كان الجسر اساسا مهترأ (بفعل الجينات) فأي عربه صغيره (مشكلة أو ضائقه) تؤدي لكسره وبالتالي ظهور أعراض الاكتئاب.. أما لو كان سليما فحتى الشاحنات الضخمه (المصائب الكبيره) يمكن أن تمر عليه دون ان يكسر .. ربما يهتز ويتأرجح فحسب... قبل فترة وجيزة اتصلت بصديقتي.. فإذا بها تبكي بحرقة.. وتقسم أنها أسوء انسانة على الأرض.. وأنني لن أتخيل أبدا ماذا فعلت.. ولو عرفت فلن أطيق أن أكلمها بعد ذلك.. ظلت توبخ نفسها طوال نصف ساعة وتحكي لي كيف أنها لم تنم طوال الليل من عذاب الضمير..وأنها لا تعرف كيف ستعيش بعد هذا الجرم.. بعد أن تنجست إلى الأبد.. وبعد الحاح أخبرتني أنها "شاهدت على التلفاز قُبلة!! .. "فسألتها سؤالا واحدا : "هل توقفت عن أخذ العلاج؟" وكان الجواب كما توقعت "نعم!!" *معيدة بقسم الطب النفسي بجامعة الملك عبدالعزيز.