نقلا عن عن الإسلام اليوم : فإن تراث وسلوك جهاز مباحث أمن الدولة المصري، الذي هو مجرد إدارة من إدارات وزارة الداخلية، جعل الكثيرين يشكُّون في مصداقيته، ويفقدون الثقة في تقاريرِه، متأكدين من أنه ارتكب الكثير والكثير من الأخطاء الفادحة، من خلال التُّهم التي يسوقها جزافًا للناس بلا تدقيق، خاصة المنتمين منهم للتيار الإسلامي. وكانت آخر حلقة من حلقات أخطاء هذا الجهاز، ما حدث مع الدكتور عائض القرني، الداعية الإسلامي السعودي، ففي شهر يونيو الماضي شنت قوات أمن الدولة حملة مداهمات أسفرت عن اعتقال قيادات من جماعة الإخوان المسلمين، بدعوى أن عناصر بالجماعة يقومون بنشاط تنظيمي في غسيل الأموال تحت زعم إقامة مشروعات استثمارية أجنبية بالبلاد، على أن يتم سحبها بعد ذلك وضخها في المشروعات الاقتصادية الخاصة بالجماعة، وتَمَّ القبض على عدد من الإخوان، ووجهت لهم مباحث أمن الدولة قائمة من التهم تتعلق بإدخال مبالغ كبيرة من العملات الأجنبية على البلاد، وغسيل أموال، تم الحصول عليها من تمويل الإرهاب، بالإضافة إلى لائحة التهم التقليدية المحفوظة من قبيل: الانضمام لجماعة محظورة غير مشروعة، الغرض منها منع مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها، وتعطيل أحكام الدستور والقانون، وكذلك حيازة مطبوعات وأوراق تنظيمية تروِّج لفكر الجماعة، وأحيل المتهمون أمام نيابة أمن الدولة للتحقيق معهم. ورد اسم الداعية الإسلامي السعودي د. عائض القرني ضمن قائمة المتهمين، وبدأت وسائل الإعلام تنشر الأسماء، فتعجب الرجل وتساءل واستفسر واستغرب، وخرجت تصريحات رسمية تنفي صلته وعلاقته بالقضية، بل وتعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود. لكن تمت إثارة القضية مجددًا، بعد أن أحال النائب العام خمسة من قيادات "الإخوان المسلمين"، إلى محكمة جنايات أمن الدولة بعد أن اتهمتهم نيابة أمن الدولة بغسل الأموال وإمداد جماعة محظورة بأموال. وهكذا تردَّد مرة أخرى اسم الدكتور عائض القرني، فمرة يذكر اسم "عائض" ومرة يذكر اسم "عوض"، وتفاعلت القضية بصورة كبيرة، ورد د. عائض ومحبُّوه في مختلف وسائل الإعلام، سواء في البرامج الفضائية أو في الصحف والمجلات أو في مواقع الإنترنت، مما شكَّل ضغطًا على أجهزة الدولة المصرية كي تتحقق من الأمر وتتجنب المزيد من الفضائح. وكانت النهاية بصدور نفي رسمي من نيابة أمن الدولة، التي نفت أية علاقة للدكتور عائض بتهم تتعلق بغسيل أموال وتمويل جماعة محظورة في مصر، وأكد المحامي العام لنيابة أمن الدولة العليا المستشار هشام بدوي أن الأمر ليس أكثر من تشابه أسماء، وأن الشخص المقصود والوارد اسمه في قرار الاتهام هو "عوض محمد سعد القرني"، وليس الدكتور عائض محمد القرني. هذا التضارب الذي حدث، دفع الدكتور عائض القرني، ومعه قطاع عريض من الشارعَيْن المصري والعربي إلى التساؤل عما إذا كان ضبط اسم متهم أصبح صعبًا، الأمر الذي يثير الشكوك والريبة ويهزُّ مصداقية اتهامات جهاز أمن الدولة المصري، فكيف نثق أو نصدق هذه الأجهزة التي تعرِّض سمعة الناس للعبث، وتعجز حتى عن كتابة اسم المتهم صحيحًا، فما بالنا بمستوى الدقة والمصداقية فيما تسوقه من تُهَم وأدلة يوميًّا ضد أناس بعينهم. الشك والريبة وفقدان المصداقية، مصدرهم أن هناك فارقًا كبيرًا بين الشيخين، وهما أبناء عم، لكنهما رغم اتحادهما في الاسم إلا أن منهج كل منهما في العمل الإسلامي مختلف عن الآخر تمامًا، فبينما يهتم الدكتور عائض بالتأليف والمحاضرات والمشاركات الفضائية، ينغمس ابن عمه عوض بالقضايا الساخنة، وبالجدل الفكري والصراع بين التيارات، وإذا كان عائض هادئًا ومسالمًا، فإن ابن عمه عوض حركي متحمس، وهكذا فإن الخلط بين الأمرين ينبغي ألا يحدث في جهاز، المفترض أن يتمتع بخبرة وكفاءة وقاعدة معلومات قوية. ويذكر كثير من المصريين نماذج عديدة لأشخاص من الإسلاميين تم توجيه اتهامات لهم في قضايا عنف، خاصةً أثناء الصراع المسلَّح بيم الدولة والتيارات الإسلامية التي مارست العنف في التسعينيات، وبعد سنوات تظهر بيانات رسمية تعلن القبض على المتهمين الحقيقيين، أي أن الذين تم القبض عليهم ولاقوا ويلات الحبس والتعذيب خلال تلك الفترة كانوا أبرياء. وربما يعود هذا السلوك إلى ضغوط القيادة السياسية على رجال الأمن، لسرعة ضبط المتهمين، وكذلك ضغوط أجهزة الإعلام ومؤسسات المجتمع المختلفة، فتلجأ أجهزة الأمن إلى التصرفات العشوائية، وهي تعلم خطأ وعدم صحة ما تقوم به. وفي كثير من الأحيان، تكره الأجهزة السياسية عالمًا إسلاميًّا، فتحرض عليه أجهزة الأمن، وهي في العادة غشومة غير ذكية، متسرعة لا تقيم وزنًا للقانون غالبًا، فتتفنن في الإساءة للرجل، بإدراج اسمه على قوائم الممنوعين من السفر دون سند قانوني، وكذلك إدراج اسمه على قوائم المراقبة في المواني والمطارات، تحت بند "انتظار وصول وترقب"، حيث تفتش حقائبه ويظلُّ محتجزًا بالمطار لساعات طويلة، ولا تكتفي بذلك بل "تفبرك" ضده التقارير الأمنية، التي تنشرها الصحف الحكومية بنصها، ويتبين بعد ذلك كذبها وركاكتها، وأكبر مثال على ذلك هو ما فعلته –وتفعله- هذه الأجهزة مع عالم بقدر وقامة ومكانة وأهمية الدكتور يوسف القرضاوي. وما قاله العميد محمود قطري، وهو ضابط شرطة، كتب ما رآه بعينه طوال 24 عامًا هي مدة عمله بالشرطة منذ تخرجه عام 1977م في كتابين، هما "اعترافات ضابط شرطة في مدينة الذئاب" و"تزوير دولة"، ما قاله الرجل من أنه يكشف بالتفاصيل كيف يتم انتهاك حقوق المواطن المصري يوميًّا، وكيف تلفّق التهم للأبرياء، وكيف يمارس الضباط التعذيب الذي أصبح منهجًا، يؤكد ما نقوله هنا، وما يعلمه المصريون جميعًا، والذين لا توجد من بينهم أسرة إلا وعانت من ظلم وغطرسة وتحكم واستبداد وعَنَت هذا الجهاز. ويؤكد العميد محمود قطري في كتابيه أن هناك أعرافًا شرطية متراكمة على مرّ العقود، بمثابة تعليمات غير مكتوبة تحدد مسلك ضابط الشرطة، ومنها تلفيق التُّهم، نتيجة العمل بنظام الإحصائيات، بمعنى أن الضابط مثلًا لو ضبط عددًا من المخالفات والقضايا في عام، فإن عليه العام الذي يليه أن يضبط عددًا أكبر من المخالفات والقضايا، وإلا يُعاقب من القيادات، وهذا العُرف يدفع بالضابط لحماية نفسه من العقاب بأن يلفِّق عددًا من القضايا ليزيد من رصيدِه. إذا فتحنا هذا الملف، وهو ملف "التلفيق" الذي يجيده جهاز مباحث أمن الدولة، فإنه يعجُّ بمئات بل بآلاف الأمثلة المؤلمة، ففي إحدى قضايا العنف الكبرى يُفاجأ جزَّار، لا يصلي، بأنه داخل قرار الاتهام ومحكوم عليه بالمؤبد، لأن أحد أعضاء التنظيم اشترى منه سكينًا دون أن يعلم هذا المسكين شيئًا عن أي شيء، ويمرض الرجل ويموت بالسجن، وهو لا يعرف التنظيم ولا السياسة ولا العنف، وأفضل ما تعلَّمه في السجن أنه أصبح يصلي، ومات وهو مواظب على الصلاة. كاتب هذه السطور قابل في المعتقل، عام 1981م، شيخًا في أواخر الخمسينيات من عمره، يعمل ترزيًّا، يكتب اسمه بالكاد، لكنه ظلَّ أكثر من عام معتقلًا، خوفًا من قدراته الخارقة على إحداث المشكلات والاضطرابات في المجتمع كما يظن ضباط أمن الدولة الأشاوس. نموذج آخر تعرفتُ عليه لشاب في الثانوية العامة، اعتُقل لأنه سأل الضابط الذي هاجم منزل الأسرة واقتاد شقيقه الأكبر عن سبب الاعتقال، وإذا كان يوجد معه إذن نيابة، فتضايق سيادة الضابط واعتقله هو الآخر، والعجيب أن هذا الطالب الصغير ظلَّ في السجن طوال فترة اعتقال أخيه الأكبر، وحُرم من دخول الامتحان وضاع عليه العام. يَذكر الناس أيضًا في مصر، أن اسم الشيخ ناصر الدين الألباني، كان يومًا من الأيام مدرجًا على كشوف الاعتقال لدى أجهزة أمن الدولة المصرية، رغم عدم وجودِه في مصر، وربما كان ذلك ردّ فعل انتقامي لجهاز الأمن المصري من فكر الرجل، الذي ينتشر بين كثير من الشباب المصريين. اضطراب جهاز مباحث أمن الدولة، هو جزء من اضطراب جهاز الدولة المصري السياسي كله، وإذا كانت أزمة النظام المصري الحالية تعكسها أزمة إجماع دول حوض النيل على تغيير المعاهدات المائية الخاصة بمياه نهر النيل بما يضرُّ بمصالح مصر، ودون خوف منها، وفي تحدٍّ لها، ويعكسه أيضًا تردي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للناس واحتجاجهم المستمر أمام مجلس الشعب، فإن أزمة جهاز أمن الدولة يعكسها هذا التخبُّط في اسم الدكتور عائض القرني، الذي ثبت أن هذا الجهاز ليست لديه قاعدة معلومات قوية وصحيحة، وإنما يضع قوائم الاتِّهام على أُسس غير معلومة، ويعتمد على نظم بالية وقديمة، وعلى أفكار لا تمتُّ للعلم الحديث بصلة. وربما يعود هذا الفشل الأمني إلى أن جهاز أمن الدولة هو الإدارة الفعلية التي تحكم مصر الآن، فلا يتم تعيين معيد في الجامعة إلا بموافقة أمن الدولة، ولا يتم تعيين وكيل نيابة (قاضي المستقبل) إلا بموافقة أمن الدولة، ولا يتم تعيين وزير ولا خفير إلا بعد الموافقة الأمنية السامية، ولا يمكن البدء في أي نشاط صحفي أو إعلامي إلا بعد هذه الموافقة، وأصبح على المواطن المصري إذا أراد ممارسة أي نشاط أن يصطدم بهذا الجهاز لكي يحصل على موافقته، وهو في الغالب ما يعترض، ولا يتم السماح بأي تجمع أو تظاهر إلا بعد موافقة الأمن، ولا يسمح لمؤتمر أو ندوة إلا بعد الموافقة السامية.. إلخ. هذا التمدد الأخطبوطي لهذا الجهاز جعله يتحمل أعباء إدارة مصر كلها تقريبًا، ولأن المنتسبين له ليس لهم في العمق الثقافي وفي الحوار ولا في التمرس السياسي ولا في الإدارة، فإن أفضل شيء يمكن فعله هو المنع والرفض والاعتراض، بمنطق "سكن تسلم"، وخوفًا من لوم ومؤاخذة القيادة السياسية. وما منع أجهزة الأمن المصرية للمفكر الإسلامي السوري الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي من دخول كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وإلغاء ندوة حول "الأديان والثقافات" كان من المقرر تنظيمها له خلال شهر يناير 2006م، وما كان من مهاجمة هذه الأجهزة للمفكر الإسلامي راشد الغنوشي عام 1988م، في فندقه بالقاهرة وترحيله ليلًا، إلا امتدادًا لانعدام الرؤية السياسية وفقدان العمق الثقافي، الذي يؤكد مدى خطورة أن يكون هذا الجهاز هو "الحكومة المصغرة والحقيقية" لحكم مصر، ويؤكد مدى أزمة وضعف وهشاشة النظام السياسي المصري.