أكّد الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم") أنَّ الإسلام لا يؤصِّل لصِدامٍ حضاري بين الثقافات المختلفة, مؤكدًا أن "العالم يتَّسع لكثير من الحضارات والإمكانات والفرص، لكن قد نجد أنفسنا مضطرين إليه في حالات أو مواجهات معينة بالتأكيد لأن الواقع الإسلامي -على أي مستوى- ليس مؤهلاً لأن يذهب إلى هذا العراك. جاء ذلك في محاضرة للشيخ العودة بعنوان "الأسرة والعولمة" على هامش المؤتمر الثالث للأوقاف الذي تنظمه الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مساء الإثنين وسط حشد من العلماء وأساتذة الجامعات والإعلاميين من السعودية ودول عربية وإسلامية. وفي مداخلة للدكتور عبدالله بن فهد الشريف رئيس قسم الفقه بالجامعة الإسلامية تساءل فيها: عما يريد الشيخ العودة أن يوصله من المحاضرة وهل ما تعيشه الأمة من معارك داخلية فكرية أشغلتها عن مواجهة الخطر الخارجي يؤصل ذلك لصدام حضاري؟ وما موقع الثقافة الإسلامية من الثقافات الأخرى؟ هل ستكون مشاركة أم مصادمة؟ وقال الشريف: من تتبعي لمشايخ الصحوة في بعض القضايا ربما حصلت ردة فعل في مواجهة التحديات المعاصرة والازدواجية المعرفية بين ما يحملونه من الثقافة الإسلامية وما جاء من تيار قد يكون في جوانبه أقوى من التفكير الإسلامي، لذا حاول مشايخ الصحوة أحياناً الوقوف جداراً بين هذه الثقافات ودخولها للمجتمع، وأحياناً دعاةً للاشتراك في الثقافات الأخرى. وقال الشيخ سلمان العودة في رده: إنني لا أستطيع أن أعيد كل ما قلته، لكنني أقول إنَّ الأسرة تتعرض لخطر كبير في هذا العصر، وإن الأسرة المعولمة لا تتفق مع القيمة الإسلامية لمفهوم الأسرة، ويكفي لو أن الحاضرين والمستمعين أدركوا آن ثمة خطرًا يتهدد أبناءهم وبناتهم، وأنه من الآن ينبغي أن نتوجه إلى أبنائنا وبناتنا، وأن نشعر بأن علينا أن نفتح لهم جسورًا من الحب والعاطفة، وجسورًا من الحوار الديني والفكري والعقلي والاستماع إليهم، حتى المعاني السلبية التي يواجهونها في الإنترنت، نشجعهم على أن ينقلوها لنا ونحاول أن ندير حوارًا حولها. ونفى العودة أن يكون حديثه يؤصل لصدام حضاري، وقال: أعتقد أن الصدام الحضاري ليس مطلبًا نسعى إليه، بمعنى أن العالم يتسع لكثير من الحضارات والإمكانات والفرص والله تعالى يقول: (والأرض وضعها للأنام) ، ويقول سبحانه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا). وإنَّ من مفهوم التعارف أن يعرف بعضنا بعضًا، وهذا لا يعني أن تتعاركوا، بل أن يعرف الإنسان اسمه وثقافته وتاريخه. ومن معاني الآية أيضًا: أن تتبادلوا المعرفة فيما بينكم، فهذا العصر هو عصر المعرفة والمعلوماتية، وكل أسبوعين تتم مضاعفة المعلومات الموجودة على الإنترنت، وهذه المعلومات ينبغي أن تكون غنيمة لنا فيهم سهم. وأضاف، أمَّا المعنى الثالث لتتبادلوا المعروف والإحسان فكما قال ربنا: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وأضاف الشيخ العودة: ولذا فأنا أؤكد أن الصِدام الحضاري ليس مطلبًا، لكن قد نجد أنفسنا مضطرين إليه في حالات أو مواجهات معينة بالتأكيد، لأن الواقع الإسلامي على أي مستوى ليس مؤهلاً لأن يذهب إلى هذا العراك. وأكد الشيخ العودة فيما يتعلق للموائمة ما بين المتغيرات وبين الإسلام، كقضية الحرية أو قضية حقوق الإنسان أو غيرها، أنه ينبغي ألا نكون مهزومين، والهزيمة تعني أننا ربما نجحد بعض الحق لأننا لا نريد أن نقول إننا أخذناه من عدونا. موضحًا أننا حينما نتكلم عن الحرية، فنحن نتكلم عن قيمة الله شرعية إسلامية، وإن الله تعالى لما خلق الخلق أعطاهم الحق والقدرة على أن يَسلكوا إحدى السبيلين، فقال سبحانه (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وأشار الشيخ العودة إلى أن الاختيار له تبعته وعليه مسؤولية وحساب لكن الإنسان هو الذي يختار الطريق. ولذلك فإن هذه قيمة إسلامية جوهرية ومن الخطأ أن نظن أن الثورة الفرنسية مثلاًُ هي التي صنعت نظام الحرية حينما قالت (الناس يعيشون أحرارًا). كذلك ما يتعلق بحقوق الإنسان فإن من الانهزامية والخطأ أن نقول إن حقوق الإنسان هي منتج غربي وأن الأممالمتحدة هي التي عرفت بحقوق الإنسان! وبرهن الشيخ سلمان العودة على أن هذه القيمة شرعية وإسلامية أصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع في يوم عرفة فقال: ((إنَّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)). مؤكدًا على ضرورة هنا القدرة على أن نميز وعلى أن نختار وألا نقع ضحية الرفض المطلق أو القبول المطلق. وكان الشيخ سلمان قد تحدَّث بدايةً عن العولمة التي قال: إنها أعظم متغيرات العصر الحاضر وهي طوفان مدجَّج بأحدث الأسلحة يحاول الأخذ من سلطة الدول وسلطة المجتمعات لصالح سلطة عالمية تتمثل في القناة الفضائية والموقع الإلكتروني والمجهود والتواصل البشري. وأشار إلى أن العولمة تحاول أن تجعل جزءًا من العالم أمريكيًّا أو أوروبيًّا أو صينيًّا، والحل أن نقدِّم الإسلام كبديل؛ لأن الإسلام داخل في حلبة الصراع أكثر من غيره، وأول شروط دخول العالم الإسلامي حلبة الصراع هو التفوق على الخصومات الداخلية والخصوصيات والمعارك الداخلية التي طالما تعبّدنا الله بها، فأول شروط المنافسة في العولمة أن نوحِّد صفوفنا في المواجهة، ونقدِّم أنفسنا كأُمَّة إسلامية قرآنية نبوية. وأوضح الدكتور العودة أن لفظ الأسرة لم يرد في القرآن ولا في السنة بهذا السياق، ومع ذلك هو مؤكد في النفوس بما يترتب عليه من أحكام فقهية وما ورد فيه من نصوص، وأكد على أن موضوع الأسرة هو أحد الثوابت القطعية التي ينبغي أن نعتصم بها في ظل طوفان العولمة، لما ورد فيها من نصوص قطعية ثابتة، والأسرة في اللغة تطلق على الدرع الحصينة، ففيه إشارة إلى أن الأسرة تحمي الإنسان من السهام الموجهة إليه، وهذا يؤكد أن الأسرة المستقرة تكون وراء نجاح أفرادها، حيث بينت الدراسات أن الأفراد الناجحين غالباً ما يكونون خرجوا من أسر مستقرة، وأن أولئك الذين يكون لديهم قدر من الإخفاق غالباً ما يكونون قد عانوا في الصغر من عدم استقرار الأسرة. وأوضح العودة أن الأسرة أيضًا في اللغة مأخوذة من الأسر وهو القيد، وهذا يؤكد الحرية التي نتحدث عنها على أنها معنىً إسلامي شرعي ولفظ عربي، فالحرية ليست لفظاً غريباً ولا نشازًا ولا منتجًا غربيًا، ولكن هذه الحرية مقيدة بقيد الأخلاق ولها قيد آخر وهو الأسرة والمجتمع، أن مفهوم الأسرة مفهوم متوازن لا يصالح شخصية الفرد لصالح الأسرة ولا يلغي الأسرة لصالح الفرد. ونبه العودة إلى أن كثيرًا من مجتمعاتنا اليوم يغلب على الناس فيها روح تسلطية على الأولاد والبنات، فكثير من الآباء والأمهات يحاول قسر أبنائهم وبناتهم على عاداتهم وأخلاقهم وعباداتهم، وهذا ما يجعل الأولاد حين يبتعدون عن الأسرة يجدون الفرصة في التهرب مما كانوا يقسرون عليه، وقد ورد عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تُكرهوا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"، فأين التحبيب في الخير والترغيب فيه، وأكد أن من الخطأ معاقبة الأبناء على سبيل الانتقام لا على سبيل التأديب، وأشار العودة إلى أن دراسات حديثة أشادت بالضرب وسيلة للتربية لكنه الضرب التربوي غير المبرح، مُشدِّداً على عدم الاقتصار عليه كأنه الوسيلة الوحيدة للتربية. كما أكد العودة على توزان مفهوم الأسرة إن الجفاف العاطفي أكبر مشكلة تواجه الأسر في التاريخ البشري. وعن وجود مفهوم الأسرة في المجتمعات الأخرى ذكر العودة أن الأسرة ذات امتداد في التاريخ منذ عصر الفراعنة وليست قصراً على هذا العصر، وقال إن الكثير من الناس يظن أن المجتمعات الغربية تخلت عن الأسرة وهذا الكلام غير دقيق، فكثير منهم لا يزال يحافظ على الأسرة ويربّي عليها، نعم هناك تفكك أسري شديد في الغرب أعتقد أنه يعود إلى أسباب عديدة وهي تهمنا بلا شك لأنها بدأت تنتقل إلى المجتمعات الإسلامية. وذكر العودة من هذه الأسباب منع الطلاق في الكنيسة الذي أفضى إلى وجود حالات زواج كثيرة غير مستقرة ومع ذلك يحاول أصحابها الإبقاء عليها مع محاولة الإشباع خارج الزواج، ومن الأسباب الثورة الصناعية الكبرى التي أدت إلى انسداد تنظيمي داخل بعض المجتمعات الغربية.