كانت البداية كما هي العادة مؤخرا ببوست على فيس بوك! صاحب البوست -نبيل سيف- صحفي دؤوب في متابعة المزادات التي تجري لبيع المقتنيات الشخصية النادرة. مغرم بالأوراق القديمة والمستندات التاريخية والمكتبات القديمة، واقتنص لنفسه بعضها أكثر من مرة كما تشير صور عديدة على صفحته الشخصية. كتب سيف يقول إنه سيحضر مساء السبت ما وصفه ب"مزاد مغلق وشخصي جدا جدا في شقة بشارع علوي بوسط القاهرة أمام مبنى الإذاعة القديم" وأضاف أنه اكتشف أن الشقة للأديبة الراحلة مي زيادة ولم تفتح منذ عام 1941، والمزاد سيكون على مقتنياتها التي عددها سيف كالتالي: "فيها بلاوي وكراتين وأوراق ورسائل من العقاد وطه حسين وأمراء وعظماء".. "أهم كرتونة اللي فيها كل ملفاتها الطبية وتقارير علاجها ووفاتها، وواضح ان الورثة هما اللي جمعوا الكرتونة دي لان فيها حتى مصاريف جنازتها وحساب الحانوتى القبطى".. "أنا عاينت الشقة من يومين بس على السريع لاني كنت مرتبط بمواعيد، وللأسف دي جزء من تاريخ مصر الأدبي هايتوزع مساء اليوم على أصحاب النصيب، وخاصة انها كانت عاشقة للمزيكا فعندها كام جرافون واسطوانات كتير، والطريف ان عندها حاجت بخط سيد درويش، وتذاكر حفلات مسرحيات للريحاني ويوسف وهبي".. "كمية الصور لها حوالى 2000 صورة مع كل عظماء مصرغير الكتب، لدرجة ان ملابسها العتة أكلتها بعد كل تلك السنوات. إنما أحذيتها ومتعلقاتها الشخصية سليمة. جواز سفرها وبطاقتها الشخصية، وخطابات الغرام بينها وبين جبران خليل جبران".. "واضح اننى سوف أجد مفاجات تانية لان الكراتين فى باقي الغرف لسه لم تفتح، والشقة كلها 4 غرف منهم غرفة مكتبة فيها 2000 كتاب مثلا كلها اهداءات، ومخطوطات وبلاوي متلتلة عايزة متحف".. "بقول الكلام ده لاننا فعلا في كارثة اسمها تاريخ مصر بيتباع على عينك ياتاجر". نحن إذا أمام خبيئة تاريخية، أو كنز من المقتنيات لأشهر أديبة عربية عاشت بين مصر ولبنان، وقصة حياتها وعلاقاتها في حد ذاتها رواية مشوقة رغم تعاستها، فضلا عن أنها تؤرخ للحياة الثقافية والاجتماعية في النصف الأول من القرن العشرين وحتى وفاة مي زيادة في مستشفى المعادي عام 1941. فور نشر البوست شاركه المئات على فيس بوك، وكان خبرا رئيسيا خلال ساعات على أغلب المواقع الالكترونية، وانطلقت المناشدات لوزير الثقافة والمسؤولين تطالب ب"إنقاذ تراث مصر من البيع والتهريب قبل فوات الأوان".. الخ. لكنني توقفت عند بعض الملاحظات في البوست: لا يوجد ما يسمى بمزاد مغلق شخصي جدا جدا، المزاد إما علني بالتعريف أو بالأظرف المغلقة. إلا إذا كان الأمر جلسة بيع يشارك بها المتخصصون وغالبا ما يتم الأمر بشكل سري غير قانوني، أيضا إحداثيات المكان كما وصفه غير دقيقة.. مبنى الإذاعة يقع بشارع الشريفين، وشارع علوي مواز له إلا إذا كان يقصد مبنى الإذاعة القديم جدا والذي لم يعد موجودا منذ سنوات طويلة!، كذلك فإنه وحسب معلوماتي أغلب مقتنيات مي زيادة إما بيعت من قبل أو موجودة لدى مقتنين لبنانيين وأكثر خطاباتها وأوراقها القانونية الرسمية نشرت ومن صور أصلية في عدة كتب للكاتبة اللبنانية سلمى حفار الكزبري عن مي زيادة حصلت عليها من ورثة أصدقاء مي أو ممن تبقى على قيد الحياة. والأهم أن المقتنيات التي أشار إليها سيف كثيرة جدا، فيما تشير كل خطابات مي زيادة في أيامها الأخيرة إلى أنها مازالت تلملم مكتبتها الشخصية التي ضاعت وتبعثر بين منازل مختلفة وكذلك مقتنياتها وأثاثها وصورها الشخصية! انتشر البوست أكثر مع طلوع النهار فيما اختفى صاحبه تماما، وفشل الجميع في الوصول إليه لمعرفة التفاصيل أو الموقع التفصيلي للشقة! علوي؟ ---------- يقع مكتبنا – مقر البرنامج المصري لتطوير الإعلام وموقع "زحمة" وجريدة "منطقتي" شديدة المحلية التي تصدر وتوزع في وسط البلد- بشارع علوي الذي يضم بحسب صاحب البوست شقة الأديبة الراحلة مي زيادة والمغارة التاريخية التي سيباع ما بها لمن يدفع أكثر. ظهر السبت مررت من الشارع باتجاه المكتب وتأكدت أن الشقة المشار إليها ليست في علوي، هي في الشريفين ربما أو في شارع شريف الصغير أو أبو بكر خيرت إن كانت موجودة حقا، بعد ذلك بدأ يتوافد على الشارع صحفيون ومصورون وكاميرات البرامج بحثا عن شقة مي زيادة والمزاد، أملا في اقتناص صور للمقتنيات طرقوا بابنا وأبواب الشارع كله بلا جدوى، وانتظروا أن يظهر المزايدون فيذهبوا معهم. لكن أحدا لم يظهر، وتواصل اختفاء الصحفي الذي أكد أنه عاين الخبيئة.. ومع زيادة عدد الصحفيين الباحثين عن المكان جاء تجار أنتيكات وسماسرة مقتنيات وأمين شرطة أيضا، قال إنه من قسم عابدين وسأل عن مكان المزاد لإبلاغ رؤساؤه به، حيث تلقى القسم بلاغا من وزير الثقافة لوقف بيع المقتنيات، وزير الثقافة أيضا بحسب تصريح له نشر في منتصف النهار أكد أنه شكل لجنة من رئيس دار الكتب والوثائق للبحث في الموضوع ومنع المزاد. لم يتوصل أمين الشرطة لمعلومة وشارك الصحفيين في البحث وسؤال البوابين والسكان.. تحول شارع علوي ومثلث البورصة الذي يضم شوارع الشريفين وشريف الصغير وأبو بكر خيرت وابن ثعلب بحلول الساعة السابعة مساء إلى مولد، وعلى فيس بوك نافس خبر شقة مي زيادة أخبار ما وجدوه في شقة حسن مالك! وكتب مستخدمون لبنانيون أنهم أيضا يبحثون عن الصحفي نبيل سيف، فميّ زيادة لبنانية وتراثها لا يخص مصر وحدها، وشككوا في القصة برمتها.. الصحفيون والباحثون عن مقتنيات ثمينة وتجار الأنتيكات وأمين الشرطة أخذوا في التحرك كفريق واحد لطرق كل الشقق في مثلث البورصة، واستجواب حراس العقارات وقدامى السكان وأصحاب المحلات، تعاون الجميع في الوصول لأي معلومة بما أن المصلحة واحدة في النهاية، وتابعنا معهم من شرفة مكتبنا. كانت لدي معلومة من مروري السريع على بعض ما كتب عن مي زيادة أنها زيادة لم تسكن في وسط البلد بعد عودتها من بيروت عقب تحريرها من مستشفى الأمراض العقلية بفضل أمين الريحاني وحملة لجمع التوقيعات من شخصيات عامة، حيث أن منزل الأسرة قد بيع في شارع عدلي قد بيع قبل سفرها ولما عادت مي سكنت في العباسية. كتبت ما أعرفه على فيس بوك، لكن الصديقة العزيزة الفنانة رندا شعث صححت لي المعلومة، وأكدت أن مي أقامت في شقة صغيرة مؤجرة بوسط البلد قبيل وفاتها. رندا شعث من عشاق مي زيادة، وقرأت كل ما كتب عنها تقريبا، بل وتحتفظ بصورة لها فوق مكتبها وتتحدث دائما عنها باعتبارها "صديقتي الحميمة التي لم أقابلها". عمارة محمد باشا علوي الذي سمّي على اسمه شارع علوي شقة الشريفين الغامضة --------------------------------- غادرت المكتب وانضممت إلى فريق البحث، وقدرت أن العمارة المقصودة تقع في الشريفين أمام مبنى الإذاعة وهي عمارة تحمل اسم محمد باشا علوي الذي سمي الشارع الموازي باسمه، وقدرت أن الشقة المقصودة تقع بها وأن صاحب البوست كان يقصد شقة بعلوي أي شقة بعمارة علوي بشارع الشريفين، ولأننا جيران سمح عم عبده بواب العمارة لي بالصعود رغم تأكيداته بإنه "مفيش الكلام ده في العمارة وان الشقق المقفولة تبع البنك وشقتين فقط ساكنين"، وتبعتني صحفية في موقع إخباري كانت تنتظر بدأب الحصول على الخبر منذ الساعة الواحدة ظهرا وحتى الساعة السابعة مساء تقريبا، صعدنا وحدنا داخل العقار المظلم، وفور وصولنا الطابق الأول انطلق نباح كلاب.. نباح غاضب ومرعب جاء من الطابق الثالث والأخير شعرنا مع تردد صداه في العمارة الاسطوانية شأن أغلب عمارات وسط البلد أن الكلاب التهمتنا بالفعل! صاح عم البواب من المدخل "متخافوش.. دي مربوطة كويس". الطابق الأول يضم 3 شقق، اثنتان منها تحمل لافتة لبنك ما، والثالثة يتسرب من بابها المتهالك ضوء، وعلى الباب لافتة خشبية صغيرة مستديرة بخط تحمل اسم الساكن غالبا (... صحفي) وبما إنه زميل فقد ضغطت الجرس ومن خلفي الزميلة الشابة. لم نسمع صوت الجرس بسبب نباح الكلاب، فضغطت مرات أخرى وطرقت الباب مرات خوفا من أن يكون الجرس معطلا، انفتح الباب عن رجل في الأربعينات يلبس فانلة داخلية وبنطلون قماشي ومن خلفه رأيته أكواما من الثياب على الأرض وكراتين وحافظات أوراق تملأ صالة الشقة! سد الرجل الباب بجسده، فبادرناه بالسؤال عن شقة السيدة مي زيادة أو ورثتها، فأجأب بسرعة معرفش حد اسمه مي زيادة، وأغلق الباب في وجوهنا.. كان الراجل مضطربا كما بدا لي، تحركنا إلى الوراء، ومن شراعة الباب رأينا خياله يسترق السمع. همست الزميلة التي لم أعرف اسمها حتى "هو ده.. هو ده اللي عنده الحاجة، خبط عليه تاني" وتركتني لتخبر بقية الزملاء وتبعتها، لكننا اكتشفنا أن الجميع اختفى، وعرفنا من حراس مبنى البورصة أن أحدهم عرف بأن هناك مزاد في شارع الشواربي لبيع مقتنيات في شقة مغلقة فهرعوا جميعا ومعهم أمين الشرطة إلى هناك! تبعتهم الزميلة وقررت أنا العودة إلى المكتب، قبل أن أغادر الشريفين إلى علوي، نظرت إلى شرفة الطابق الأول ورأيت الرجل صاحب الفانلة الداخلية يراقب ما يجري بنصف جسد من داخل باب البلكون! عدت إلى البواب وسألته عن سكان العمارة، فجدد تأكيده بأن الشقق ملك البنك وبها مكاتب، أما الطابق الأول فيسكنه الأستاذ (فلان) الصحفي وابنه ويعيشان وحدهما منذ زمن أما الطابق الثالث فتسكنه أسرة (صاحبة الكلاب) سألته بالتحديد عن الأستاذ فلان فقال ده راجل عجوز جدا وصحفي قديم ويعيش معه ابنه وأحسن لكم مالكوش دعوة بيه! قبل أن أغادر لمحت (أمجد. ن) وهو مقتنٍ معروف وخبير في المقتنيات الشخصية واللوحات القديمة والأصلية لكبار الفنانين التشكيليين وشقة كهذه كنز بالنسبة له، لكنه لا يحركه بوست على فيس بوك وإنما معلومات محددة .. هو أيضا من سكان وسط البلد ويعرفها شبرا شبرا كما أنه ولد وعاش حتى سن المراهقة في مثلث البورصة بشارع شريف الصغير، يعرفه الجميع في المنطقة ويعرف الجميع. سألته عن الشقة والمزاد وكان رأيه القاطع بحكم معلومات لديه وهو قديم في المهنة أن هناك مقتنيات ما، لكنها لدى أحد السكان وليست في شقة مي زيادة وأن الموضوع كان سيتم بين كبار تجار هذه الأشياء لولا أنه تسرب، لكنه شكك في حجم هذه المقتنيات. عاد الصحفيون ومعهم أمين الشرطة من شارع الشواربي بخفي حنين، واتضح أن أحد حراس العقارات بالشارع هو الذي أخبرهم بمزاد الشواربي الوهمي، ربما لكي يتخلص منهم! تابعت الحديث مع (أمجد) الذي رجح أن يكون أحد السكان في العقار قد وجد الخبيئة في صندرة المنزل أو ما شابه، حيث أن أغلب عمارات المنطقة مؤجرة إما من شركة مصر لإدارة الأصول العقارية أو بنك مصر بحق الانتفاع وأنه شخصيا حصل على الكثير من بضاعته من سكان وجدو في شققهم أشياء تخص من سبقهم. تحركنا أمجد وأنا باتجاه المكتب لاستكمال حديثنا وفي الطريق نظرت باتجاه شرفات العمارات متوقعا أن يكون صاحب البوست يراقب ما يحدث ويضحك. أما الفريق (الزملاء الصحفيون وأمين الشرطة) فقسم نفسه للبحث من جديد، خصوصا بعد أن وصل إلى شارع علوي أعضاء لجنة وزارة الثقافة ولم يجدو الشقة ولا المزاد أيضا! جراج علوي خلف مبني الأهرام القديم حيث كانت تقع عمارة مي زيادة إذا هل أقامت مي زيادة فعلا في وسط البلد بخلاف شقة أسرتها المعروفة في شارع عدلي حيث كانت تقيم صالونها الأشهر؟ شقق وسط البلد نعم. أقامت مي في أكثر من شقة في وسط البلد وماتت في إحداها، وتبعثرت مقتنياتها وكتبها في أكثر من شقة أخرى مكان ولدى العديد من منازل أقاربها، في وسط البلد وشبرا ومصر الجديدة. كان أول منزل أقامت فيه مي زيادة مع أسرتها في القاهرة يقع في 14 شارع مظلوم بباب اللوق عام 1913 وفيه بدأ صالون الثلاثاء الشهير، ومن هذا المنزل انتقلت الأسرة إلى بيت أكبر هو المنزل رقم 28 شارع المغربي شارع عدلي حاليا (تحول مكان العقار إلى محطة بنزين الآن) وكانت شقة الأسرة تقع في الطابق الخامس من عمارة ليس بها مصعد، مما أرهق ضيوف الصالون ومنهم شبلي شميل ويعقوب صروف، فانتقلت الأسرة بعد ذلك إلى منزل آخر هو العمارة رقم واحد شارع علوي خلف مقر جريدة الأهرام، وكان العقار ملكا للأهرام (تحولت الآن إلى جراج عمومي) وعاشت الأسرة هناك طويلا وفي هذه الشقة انعقد صالون مي زيادة برواده من أشهر الكتاب والمثقفين آنذاك أحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد وأحمد شوقي وزكي مبارك و وهدى شعراوي واميل زيدان وفتحي رضوان وغيرهم، حتى مات الأب عام 1929 وتبعته الأم عام 1932، وبدأت مأساة مي وفرضت على نفسها عزلة خانقة حتى غادرت هذا المنزل عام 1936 عائدة إلى بيروت للعلاج بعد معاناتها مع الاكتئاب، لكن بعض أقاربها تآمرو عليها واتهموها بالجنون من أجل الاستيلاء على ميراثها وأودعوها مستشفى للأمراض العقلية لمدة ثلاث سنوات تقريبا، كما استصدروا قرارا من المحاكم بأنها ناقصة الأهلية وقاموا بالحجر عليها والاستيلاء على ممتلكاتها في شقة علوي التي استردتها جريدة الأهرام بعد ذلك، حتى تبنى أمين الريحاني قضيتها ودعا أشهر الكتاب والمثقفين والسياسيين لتوقيع عريضة لإخراجها من المستشفى. عادت مي زيادة إلى القاهرة عقب تحريرها من مستشفى الأمراض العقلية، وبدأت في خوض نضال قانوني لاستعادة أموالها ومكتبتها ومقتنياتها التي تفرقت بين مخزن الكنيسة المارونية بمصر الجديدة، وشقة في شارع الأهرام بشبرا استأجرها ابن عمها إغناطيوس زيادة ونقل إليها أثاث شقة علوي. خصص المجلس الحسبي في مصر مبلغا شهريا لمي عقب عودتها لتنفق منه وبه واستأجرت شقة صغيرة تقع في الطابق الأرضي بالعمارة رقم 16 شارع أبو السباع وهو شارع صبري أبو علم حاليا (تحولت إلى محطة بنزين).. وهي الشقة التي وصفتها في أحد خطاباتها بأنها "كهف لضعف النور" وواصلت مي من هذه الشقة محاولة الحصول على ميراثها وكتبها ومقتنيات أسرتها، حيث صرف لها المجلس الحسبي شهريا 15 جنيها للانفاق على نفسها وفوجئت مي بضياع أغلب مقتنياتها وتلف الباقي، كما ضاع الجزء الأكبر من مكتبتها كما تقول في إحدى رسائلها لخليل خوري "لم يجدو ملعقة ولا شوكة، ولا فوطة ولا مفرشا، ولا حلة ولا طبقا. والمدون في قائمة الجرد هو الكرسي والطاولة والكنبة وما شاكلها. فهل تلك أمتعتي؟ ولو كانت تلك هي، أفتكون في حالة لائقة للاستعمال" وفي رسالة أخرى تصف حال الشقة التي استأجرتها في الطابق الأرضي بشارع صبري أبو علم (أبو السباع) ومحاولاتها لاستعادة مقتنياتها التي استلبت من شقة علوي "مكتبتي مازالت عند الناس رهينة، وحوائجي مبعثرة، ولست أدري ما أنال منها، وبيتي يقطنه الناس وأنا أدفع إيجاره (تقصد شقة شارع الأهرام بشبرا) في حين أنا أقطن هذا البيت المفروش، الذي لضيقه ولضعف النور فيه أسميه كهفا، وأدفع إيجاره بالطبع" بعد صدور حكم الاستئناف بتمكينها من ميراثها بدأت مي زيادة في البحث عن شقة أخرى، وفي رسالة أخرى لصديقها خليل الخوري تخبره أنها تبحث ليل نهار عن شقة أفضل وأنها وجدت الكثير من الشقق بسبب الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها البلاد، لكنها لا تجد ما يناسبها فهي تريد أن تبقى في وسط البلد بالقرب من بيت الأسرة القديم الذي ذهب. وفي 16 مارس 1939 كتبت مي زيادة إلى الأمير مختار الجزائري تخبره بأنه وفقت في استئجار شقة بنفس العقار ولكن في الطابق الثالث تصفها بأنه "منورة وأكثر اتساعا" وأنها تواصل محاولاتها لاستعادة مكتبتها ومقتنياتها الشخصية أحبت مي شقتها الجديدة في أبو السباع (صبري أبو علم) كما بدا في أحد خطاباتها لصديق لها يدعى خليل أبو سكر، وبدأت في لململة ما تبقى من مكتبتها ففي خطاب إلى صديقتها سنية الأيوبي كتبت مي "غدا سأعود إلى العمل في البيت، ولا سيما في تنظيم المكتبة التي لم يبق لي منها إلا نحو 1500 مجلد من 7000 مجلد. لست أقول لكم كم أنا أتألم لكثرة ونفاسة ما فقدت، وعندما أرى كل ما نهبوه مني أفهم لماذا رموني بالجنون، ولماذا فعلوا كل ما فعلوه. وعندما أعرف أسماء الذين اشتركوا في السرقة (وهم أكثر من واحد) أفهم لماذا أشترك أناس كثيرون في نشر الإشاعات" وفي رسالة أخرى تقول إنها اشترت عود، ليس كعودها الذي سرق وراديو لكنه يعطل كثيرا بنزينة 16 صبري أبوعلم حلت محل البناية التي سكنت فيها مي شقتين وظلت مي زيادة في هذه الشقة حتى أكتوبر عام 1941، وفيها سقطت مريضة جدا بعد أن أصيبت بالأنيميا الحادة، ومنها نقلت إلى مستشفى المعادي علي يد جار لها طبيب نمساوي يدعى ريخمان لكنها ماتت هناك في الخامسة والخمسين من عمرها. تصف صديقتها نور مرعي حال شقتها حينما نقلت إلى المستشفى بأنها كانت يكسوها التراب، وكانت توجد على منضدة بجوار سريرها رواية بالفرنسية للشاعر لامارتين، ورواية صورة دوريا جراي بالانجليزية، وكتابها باحثة البادية، ومخطوطات من كتابها ليالي العصفورية عن تجربتها في مستشفى الأمراض العقلية في مكتبتها. واتصلت الصديقة وزوجها بإبني عمها اللذين جاءا فأعطتهما مفتاح الشقة وفتحا خزانة وجدا فيها 800 جنيه وخاتمين من الماس وسلمتهما الشقة للمرة الأخيرة. أما مي فقد أقيم القداس على روحها بالكنيسة المارونية ودفنت في مقابر المارون بمصر القديمة بجوار مسجد عمرو بن العاص. هكذا تحولت شقق مي زيادة الأربعة إلى محطتي بنزين: شقة عدلي (المغربي سابقا) وشقتيّ 16 شارع صبري أبو علم، بينما تحولت شقة علوي إلى الجراج الذي يحتل ناصية شارع علوي أمام مطعم البرنس. قبل أن نغادر مثلث البورصة (أمجد) وأنا، تلقى اتصالا هاتفيا، ومنه عرف موقع الشقة المقصودة. الشقة ليست لميّ زيادة وإنما لمقتن آخر، وجد بعض أوراق مي بطريقة ما في شقتها اللي توفيت فيها وبعض كتبها ليست بالحجم الذي جاء في البوست، ولديه مقتنيات أخرى لأشخاص آخرين يعرضها للبيع، لكن البوست الذي (قلب الدنيا) أوقف عملية البيع إلى حين. ----------------------- مصادر: "مي زيادة حياتها وآثارها" سلمى الحفار الكزبري "مي زيادة أو مأساة النبوغ- الجزء الثاني" سلمى الحفار الكزبري صحفي مصري ورئيس تحرير جريدة منطقتي*