حين تدّعي فئة ما احتكارها الحقيقة المطلقة وتمارس دور بوليس الأفكار ومحاسبة الأفراد بناء على انتماءاتهم الدينية ونبش التاريخ واستدعاء جراحاته وأحقاده يشتد الصراخ الطائفي ويحدث ما وقع في الأحساء من جرائم إرهابية مجردة من القيم والإنسانية. إن حتمية الصراع بين الطوائف وتفتيت لحمة الوطن تكرسها فئة آمنت بأن على البشرية أن تتساوى في العقائد والأفكار والأذواق وربما الأزياء دون إدراك بأن التنوع ظاهرة صحية تدفع المجتمعات الإنسانية إلى البحث عن إضاءات كل ثقافة. منذ ما يقارب الثلاثين عاما الماضية وهي الفترة التي تشكل فيها فكر الصحوة الإسلامية تعرض المجتمع السعودي لهزات اجتماعية وفكرية تشرب من خلالها فكرا راديكاليا في كافة المجالات الفنية والأدبية والاجتماعية وسعى هذا الفكر إلى الاستحواذ على العقول ونزع الثقة من المجتمع في إطار تحييده وتجيششه ضد كل فكر مناوئ. تزداد الحاجة الآن إلى حملات تنويرية يقودها مثقفون وإعلاميون وأكاديميون إلى تنقية الوعي المجتمعي من شوائب كثيرة. وفي بادرة وطنية لمثقفين وإعلاميين وأدباء سعوديين طالبوا ضرورة وأد الفتنة الطائفية والتحذير من هذا الفكر، مؤكدين على أهمية الوعي في مواجهة دعوات الفرقة والتعصب، كما أطلق مغردون وسما على تويتر بعنوان «الأحساء متحدة ضد الفتنة» وتفاعل معه عدد من الإعلاميين والكتاب والمثقفين والدعاة حيث كتب الداعية الشيخ عادل الكلباني تغريدة قال فيها: «هذا هو الظن بالأحساء وأهلها، الأحساء متحدة ضد الفتنة». وغرد مدير قناة العرب الإخبارية الكاتب الصحفي جمال خاشقجي قائلاً: «يتنادى العقلاء الأحساء متحدة ضد الفتنة ولكن الفتنة يشعلها المتعصبون ويقع فيها العامة». من جهة أخرى قال بدر الجعفري:»من يرتكبون جرائم قتل الآمنين مجردون من كل القيم الإنسانية والدينية». ومن جانب آخر أصدر المؤتمرون في مهرجان الشعر العربي الثاني المقام بنادي منطقة الباحة الأدبي بياناً يستنكر حادثة الاحساء حيث اشار المؤتمرون بأنهم تلقوا نبأ الحادثة الاليمة التي جرت في مدينة الاحساء وما صاحبها من عمليات ارهابية في مواقع اخرى وأشار البيان أن المؤتمرين جميعاً ضيوفاً ومضيفين ومنسوبي نادي الباحة ومثقفيها يستنكرون هذه الحادثة التي لن تفت في عضد التكامل واللحمة الوطنية وأن هذه المحاولات العابثة ستزيدنا ألفة وترابطا لطرد هذه الافكار الخبيثة التي لن تجد لها بيننا مكاناً كما اوضحوا في بيانهم أننا بوصفنا مثقفين نعلن استنكارنا واستهجاننا لهذا الفعل الشائن لنعلن في ذات الوقت حرصنا على وحدة هذا الوطن العزيز وولاءنا لقيادته الرشيدة ووقوفنا صفا واحدا بسلاح الكلمة والفكر ضد كل مخرب وعابث سائلين الله أن يحمي وطننا العزيز وأن يوفق ولاة أمرنا لكل خير. وعن رؤية الكثير من الأدباء العالميين حول العنف فقد ذكروا وفقًا لإحدى التقارير المنشورة سابقًا بعنوان «كلماتهم سلاحهم نحو العنف» بأنه لا يمكن مواجهة الإرهاب بمختلف صنوفه وأنواعه بالحس الأمني فقط، بل إن تدميرهُ تنظيرًا وفكريًا يمثل أقوى الأسلحة قدرةً وذكاءً لإلغائه كُليًا من خارطة تفكيرنا وشعورنا، انطلاقًا من ذلك فلقد حرصت المملكة على مر عقود طويلة إلى تبني هذا الطريق من خلال المؤسسات الثقافية والأدبية المعنية بذلك، حيث نجد أنه قد أقيم في فترات قريبة جدًا الكثير من المؤتمرات المتعلقة بهذا الصدد ك «مؤتمر الأدب في مواجهة الإرهاب» الذي عقد في جامعة الإمام، موضحًا هذا المؤتمر من خلال المشاركين فيه وهم نخبة من الأدباء والمفكرين على أن مقومات تحقيق الأمن الاجتماعي والوطني هي مهمة شعرية وأدبية بالدرجة الأولى وكما يقول كافكا: « أن نكتب يعني أن نهجر معسكر القتلة»، ومن خلال الأدب الذي يعد المؤثر الحقيقي في الشعوب يتم تقوية الجانب الديني والإنساني، والاهتمام به في تربية النشء وتهذيبهم وتثقيفهم، والمحافظة على كرامة الإنسان، وعدم المساس بخصوصياته، وتنمية الأخلاق النبيلة بتعزيز ما يحسن منها في المجتمع ونبذ ما يقبح، وفي هذا الصدد فقد أكد الدكتور الوليد عبدالرؤوف المنشاوي في ورقته التي قدمها هناك تحت عنوان: (أثر الأدب في إرساء دعائم الأمن في المجتمع) بأن الواجب على المجتمعات أن تحافظ على أمنها وأمانها وبأن الأدب الذي ينشده المجتمع هو الذي يحارب التشدد والغلو في التصرفات وردود الأفعال ويواجه السلبيات التي تدفع بالشباب إلى الخروج عن طريق السماحة والاعتدال؛ ليأخذ مكانه بتبني الدعوة إلى تعزيز الوسطية في النهج والاعتدال في الفكر، مبينًا المنشاوي أن الإبداع عمومًا يدعو إلى توقير العلماء والعقل وإبراز مكانة أهل العلم وترسيخ أهمية لزوم الجماعة وتعزيز مبدأ الحوار وتعميق معاني الانتماء إلى الوطن. فجميع البشرية تطمح لما قاله يومًا ألبير كاموا «لسنا ننشد عالماً لا يُقتَل فيه أحد، بل عالم لا يمكن فيه تبرير القتل»، كذلك الدكتور شحاتة أوضح في ورقته التي قدمها في المؤتمر بأن دور الشعر قديمًا كان لا يمكن تحديده في اتجاه معين فقد واجه الشعر الإنحرافات الفكرية وله قدرة فعّالة في الحياة بجوانبها المتعددة، كما دعا المتحدثين هناك إلى تبني تحرير مفهوم الإرهاب ودلالاته في الجانب الثقافي والأدبي والنقدي، مشدداً على ضبط مفهوم الحرية في الفكر والأدب بالقيم الإسلامية، مطالبين بإنشاء مركز لرصد النتاج الأدبي المسهم في مواجهة الإرهاب؛ مختتمين كلامهم إلى حث الأدباء العرب والمسلمين على تبني قيم التسامح في نتاجهم الإبداعي، وذلك وفقاً للمفهوم الإسلامي وضوابطه ونشر إبداعهم سعياً إلى توضيح الصورة الحقيقية للأديب العربي المسلم، وتحرير المفهوم لمصطلح «الإرهاب» ودراسة دلالاته في الجانب الثقافي بصورة عامة والأدبي والنقدي بصورة خاصة، بالإضافة إلى صياغة ميثاق أدبي تتبناه جامعة الإمام دعما لأثر الأدب في معالجة الإرهاب وتجفيفا لمنابع الفكر المنحرف، بجانب هذا كله تأتي رؤية القيادة الاستبصارية من خلال إنشاء مركز متخصص للحوار لا يقتصر على الحوار بمفهومه البسيط وإنما بمفهومه العميق والإبداعي فالحوار حقيقة إنسانية وجودية، وقد تم في أوقات سابقة إفراد صفحة كاملة نظرًا لأهميته حيث أنه وكما تم ذكره دافع لإنشاء بيئة ثقافية متنوعة غير منغلقة على نفسها وتعزز من مبدأ التضامن وبناء الجسور وإشاعة روح الحوار الذي يعزز منظومة الوعي الاجتماعي، بوصفه أمراً يدفع عجلة الوطن نحو التنوع واتخاذ أسلوب حياتي جديد من أجل اكتمال البناء وتحقيق الكثير من الأحلام والأمنيات بعد أن يزيح خرافة القوة من أمامها وعن ذهنيتها دون أن يصبح جزءاً منها، وليقدم بذلك بنية معرفية مختلفة عن كل البُنى المستجلبة بطريقة مشوهة من الماضي؛ باعتبار أن الماضي بحد ذاته خاضعاً للوسائل والأساليب التي يُنقل من خلالها والتي قد تجعل من اللا عقلاني بُعداً عقلانياً، والعقلاني في الدلالة والفهم والتأويل مجرد رأي شاذ يثير قريحة العنف نحو الاختلاف لأنه ليس واسع الانتشار مع عدم الفصل والتفريق بين الثوابت والاجتهادات، لقد أتى المركز ليستشرف التحديات الفكرية التي تواجه البلاد محلياً وعالمياً وإقليماً ودولياً دون نسيان أن المملكة العربية السعودية تتبوأ موقعها العربي الإسلامي وما تحتضنه من بقاع مقدسة طاهرة لها تاريخها الحضاري وتأثيرها العالمي وعمقها الجغرافي، لقد حرصت الكثير من الفنون الإبداعية سواء كانت شعرًا أو رواية أو سير ذاتية إلى نبذ العنف ولعل من أشهر تلك الأعمال مذكرات الأديب هرمان هسه الذي أعاد تربية الألمان إبان الفترة النازية بقوله لهم: «إنكم لن تجلبوا السعادة لهذا الكوكب بالقتل، إنكم فقد تريدون أن تصنعوا من أجسادنا ضحايا لأفكاركم التي ستكتشفون لاحقًا -وبعد أن نموت- بأنكم على خطأ!!». الجدير ذكره أن المتحدث الأمني لوزارة الداخلية قد أكد في وقت سابق إلقاء القبض على (6) أشخاص ممن لهم علاقة بالجريمة الإرهابية التي وقعت في الأحساء، وراح ضحيتها (5) أشخاص وأصيب (9) آخرون، وجاء ذلك عقب ساعات من وقوع الجريمة التي استنكرتها هيئة كبار العلماء، حيث تعرض مواطنون لإطلاق نار من ثلاثة أشخاص ملثمين بقرية «الدالوة» بمحافظة إن يقظة الأمن كفيلة إن شاء الله بالتعامل مع من يخططون لتنفيذ أعمال إرهابية، وحين ننظر الى الخلفية والتراكمات التي أوجدت الإرهاب ندرك أننا بحاجة الى يقظة فكرية ومعالجة استراتيجية للفكر الذي ينشر الفتنة والتطرف والعنف والكراهية رافعاً مع الأسف راية الإسلام دين السلام والرحمة والمحبة والتسامح، ما نتج عنه مقتل (5) منهم وإصابة (9) آخرين