د. عبد العزيز الغدير الاقتصادية - السعودية أحد الاستشاريين يقول إنه أمضى فترة طويلة مع إحدى الجهات المتعاقد معها في تنفيذ الشق الموضوعي من الخطة "الأهداف، القيم، السياسات، البرامج التنفيذية ومشاريعها وآلياتها، الموازنات، مؤشرات الأداء، الهيكلة، آلية العمل... إلخ" وفق منهجية العمل المعتمدة في العرض، حيث قام بجمع البيانات والمعلومات من داخل الجهة وخارجها بجهود مضنية شملت البحث وقراءة المطبوعات واللقاءات الشخصية والاجتماعات الموسعة وورش العمل وكل ذلك بطبيعة الحال للوصول إلى الفاعلية المثلى لتحديد مسارات العمل التي تصب في تحقيق الأغراض التي أنشئت هذه الجهة من أجلها، وكذلك لتحقيق الكفاءة المثلى من جهة استخدام الموارد المتاحة من مال وموارد بشرية وأجهزة ومعدات ووقت. يقول ما أن انتهينا من تنفيذ كل ذلك وكتبنا الخطة بتفاصيلها بعد أن تجاوزنا المدة الزمنية المحددة حسب العرض لأمور تتعلق بتأخرهم في عقد الاجتماعات وورش العمل وتوفير المواد، حتى قالوا الآن بداية العقد وكل ذلك لا يعتبر من العقد لأنه "تنظير" ولم يكن هناك "تنفيذ" خلال تلك المدة. يقول أصابتني الدهشة مما سمعت، حيث إنهم همَّشوا مرحلة "التفكير" وهي المرحلة الأهم للوصول إلى خطة وهيكلة وآليات تنفيذ تحشد الجهود وتدفع بالمؤسسة في المسارات الصحيحة دون المرور بمرحلة التجربة والخطأ وهدر المال والجهد والوقت، وهي المرحلة الأهم في تحديد مؤشرات الأداء التي تمنع الانحراف الذي عادة ما يبدأ قليلا وينتهي كبيرا ما لم يتم تداركه منذ البداية بعد اكتشافه من خلال مؤشرات الأداء، وهي المرحلة التي تحتاج فيها المنظمات إلى الاستشاريين، إضافة إلى دورهم في الإشراف على التنفيذ وفقا للخطة المرسومة استنادا للتحليل والتشخيص الدقيقين. يقول: ما صدمني أكثر أن المسؤولين على ثقة بأن مرحلة "التفكير" التي وصفوها أو بالأحرى وصموها بمرحلة "التنظير" لا تستحق دفع أي تكاليف وأن التكاليف ستدفع لمرحلة التنفيذ فقط، ويضيف أن هذه الحالة تتكرر معه حيث عادة ما يحتقر ويزدري المسؤولون والموظفون مرحلة "التفكير" ويسمونها مرحلة "تنظير" و"فلسفة"، إلى غير ذلك من المسميات التي تقلل من شأنها رغم أهميتها القصوى، حيث تهدر الأموال وتضيع الأوقات وتبدد الجهود دون تحقيق الرؤى والغايات والمهام بالشكل المنشود. ويقول إن هذا خلاف ما يكون في الدول المتقدمة التي تؤمن بأن مرحلة "التفكير" هي المرحلة الحاسمة والموجهة لمرحلة "التنفيذ"، ومخرجاتها هي التي تضبط جودة التنفيذ ودونها تنعدم الفاعلية والكفاءة وتضعف القدرة على تحقيق الأهداف والمنافسة في السوق، وتتراكم وتتفاقم المشكلات رغم وفرة الموارد. حقيقة الأمر لم أستغرب ما قاله الاستشاري، حيث إن من سمات الدول أو الأسواق الناشئة أنها لا تهتم ولا تنفق الإنفاق المعياري المطلوب على اللا ملموس الذي يشمل الاستشارات الإدارية والمالية والتسويقية والقانونية وغيرها لعدم فهم أهميتها وجدواها. هذا بطبيعة الحال أدى إلى ضعف سوق الاستشارات المحلية مقابل قوة سوق الاستشارات في الدول المتقدمة التي أصبحت ملاذ كل جهة حكومية أو خاصة تؤمن بأهمية الاستشارات في صناعة القرار السياسي أو الاستثماري أو التنفيذي أو نوع من أنواع القرارات. ويبدو لي في كثير من الأحيان أن وصم مرحلة التفكير ب "التنظير" من قبل الكثير رغم أنها مرحلة "التفكير الاستراتيجي" على سبيل المثال مرحلة مهمة جدا ولها آلياتها في منهجية إعداد الخطط الاستراتيجية يكون في كثير من الأحيان بسبب ضعف فكر المسؤولين الإداري أو المالي أو التسويقي وعدم فهمهم وممارستهم لأساليب التفكير، ولذلك يتهربون من هذه المرحلة لمرحلة التنفيذ مباشرة لكي لا يظهر ضعفهم وهذا ما أكد عليه أكثر من استشاري، حيث قالوا إن الكثير من المسؤولين لم يصل بالجدارة وإنما وصل لمنصبه بالترقي عبر خط الزمن أو الترقي من خلال العلاقات الاجتماعية والواسطة وغيرها. ومع الأسف الشديد اطلعت على حوار بين أكثر من صانع رأي حول جدوى المؤتمرات والملتقيات والمنتديات التي ينفق عليها كثير من الجهات الملايين وكان المتحاورين متذمرين من تلك الأنشطة الاتصالية الفكرية باعتبارها مضيعة للمال والجهد والوقت لعدم الخروج منها بمشاريع تنفيذية بشكل سريع. هذا يؤكد عدم إدراك هؤلاء لدور هذه الأنشطة الفكري في إعادة تشكيل الوعي والمعرفة، وإعادة توجيه مسارات التفكير والتعرف على شركاء المهنة أو القطاع وتبادل المعارف والخبرات والآراء. كل من يدرك هذه الأهمية تجده لا يفوت نشاطا فكريا إلا وحضره أو شارك فيه لأنه وجد فائدته، بل كثير ممن أدرك هذه الفائدة يسافر ويقطع آلاف الأميال للمشاركة في هذه الأنشطة الفكرية المهمة في صناعة العقل وأساليب التفكير. بطبيعة الحال الدراسات والبحوث التي تعتبر المصدر الأهم للتحليل والتشخيص كمرحلة أولية للتفكير تصبح بالتبعية ليست مهمة بالنسبة لرافضي "التنظير" وهذا بدوره يضعف سوقها وجودتها ومهارة مواردها البشرية الوطنية رغم أهميتها في صناعة المستقبل وصناعة واتخاذ القرارات الرشيدة في جميع المجالات رغم أهميتها في تحييد العواطف والأهواء والانطباعات وضغط الدوائر المحيطة بالمسؤول. يقول الدكتور سامي خزندار؛ أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية بالأردن في محاضرة حول أهمية البحث العلمي عقدت في 23 شعبان 1435ﻫ: يجب أن تكون صناعة البحث العلمي أداة لمواجهة الظروف المتغيرة، وألا تسلِّم بالمعنى السلبي للظروف وتنتظر التغيير حسب الأهواء أو التوقّعات، وإنما تقدم الحلول المباشرة والدراسات المتطورة في إحداث التغيير الأمثل للقرارات والاستراتيجيات التي تمثل الرأي العام وسياسات الإدارة الحكومية، وأقول ليت من يصم التفكير بالتنظير يدرك ذلك. ختاما، أتطلع إلى أن تنهض الجامعات بدورها من خلال مراكز البحوث والدراسات والاستشارات التابعة لها في توعية المجتمع عموما والمسؤولين على وجه الخصوص بأهمية مرحلة التفكير لإعداد الخطط والهياكل والآليات التنفيذية السليمة لرفع الفاعلية والكفاءة والاستثمار الأمثل للموارد فكفانا هدرا وضياعا للمال والوقت والجهد.