الشروق - القاهرة 1) العروس: وصلت إلى بيروت الثلاثاء الماضى للمشاركة فى مؤتمر حول الأوضاع المجتمعية والسياسية فى العالم العربى، وهدف الزيارة الحقيقى كان أسريا وإنسانيا. فقد رافقتنى زوجتى وابنتنا ناديا لكى نهنئ على الزواج صديقا مصريا له فى قلبى مكانة خاصة، بعد أن امتدت «عشرتنا» منذ سنوات الدراسة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة القاهرة) إلى زيارات متبادلة دائمة إلى حيث يسكن أو إلى حيث أحيا. الصديق، الذى كان يتحايل على الزواج وعلى ضغوط أسرته «لربطه» بإصرار شديد، تزوج أخيرا من سيدة سورية رائعة وفرت بيروت لها وﻷسرتها مرفأ آمنا من جنون الحرب والعنف فى وطنها (خاصة فى مدينتها حلب)، كما وفرت بيروتولبنان ملاذات آمنة للكثير من الأسر السورية الفارة من المقتلة السورية. العروس والعريس تزوجا يوم السبت الماضى فى كنيسة بيروتية، واحتفل بهما بعض الأهل والأصدقاء، ورغبنا فى عدم التأخر عن تهنئتهما بعد ما عجزنا عن حضور مراسم الزواج. وحين التقيناها مساء الثلاثاء، حكت العروس عن أهوال الحرب والعنف فى حلب وعن فرار الأطفال والنساء والعجائز، عن البيوت المهدمة والمدارس والمستشفيات المدمرة وفقا لتقارير مستقلة، دمر بالفعل أكثر من 70 بالمائة من مبانى ومرافق حلب ومعالمها الأثرية، عن خطوط التماس بين المتقاتلين التى تقطع أوصال المدينة وعن نقاط التفتيش التابعة لجيش الأسد وتلك التى تسيطر عليها جبهات كالنصرة وغيرها، عن الدموية والوحشية والاستبداد والإجرام والشرور الأخرى التى يشتركون جميعا فيها دون تمايزات، عن احتضان فقراء لبنان للأسر السورية الفارة من الجحيم وعن بيروقراطية أعمال الإغاثة التى تقوم بها وكالات الأممالمتحدة وبعض الوكالات الدولية الأخرى وعن امتهان الكرامة الإنسانية للاجئين السوريين تشير بعض تقارير المنظمات غير الحكومية اللبنانية والعربية والدولية إلى أن نسبة كبيرة من الأموال المخصصة لإغاثة اللاجئين السوريين فى لبنانوالأردن وتركيا تنفق على رواتب وسكن وترتيبات تأمين المسئولين الغربيين العاملين فى وكالات الأممالمتحدة، عن نجاحها هى فى الحصول على عمل كمدرسة للغة الإنجليزية لبعض الأطفال السوريين المقيمين فى بيروت وحولها وعن سعادتها بشىء من الاعتيادية فى حياة انقلبت رأسا على عقب وضاعت منها ملامح الوطن. *** 2) صديقى سلام والدبلوماسى الإيرانى: بدأت أعمال مؤتمر الأوضاع المجتمعية والسياسية فى العالم العربى صباح اليوم التالى، الأربعاء، وكانت مداخلتى فى جلسته الأولى التى جاءت بها أيضا مداخلة الصديق الباحث السورى سلام الكواكبى، نائب مدير مبادرة الإصلاح العربى شبكة مستقلة لمفكرين ومثقفين وأكاديميين عرب يعملون على قضايا الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى والسياسى فى بلادنا وينشرون كتاباتهم وأبحاثهم فى دوريات علنية ومقرها الإدارى فى العاصمة الفرنسية باريس. ركز سلام، حفيد صاحب «طبائع الاستبداد» عبدالرحمن الكواكبى، فى مداخلته على «المقتلة السورية» (وهو المفهوم الذى استخدمه هو فى جلسة المؤتمر الأولى واستعرته أنا منه أعلاه) وشرح كيف دفعت متواليات الاستبداد والتطرف والإرهاب والتخلف المتكالبة على سوريا شعبها إلى مصيره الراهن، بعد اشتعال ثورة شعبية حقيقية طالبت بالديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية وأرادت إزاحة طاغية اعتاد زبانيته على سفك الدماء وارتكاب الانتهاكات، ولم يكن أبدا من بين أهدافها لا الزج بسوريا إلى عبثية مواجهة بين الطاغية وبين جبهات ظلامية متطرفة لا تقل إجراما أو عنفا، ولا فرض فظائع القتل على الأطفال والنساء والرجال فى الداخل أو الموت وهم يبحثون عن ملاذات آمنة (غرقا فى عرض البحر الأبيض المتوسط)، ولا مصائر الهروب والفرار واللجوء على ملايين السوريين. شرح سلام أسباب عجز المعارضة السلمية فى سوريا عن تقديم بديل فعلى يوقف جنون الحرب بين الطاغية الأسد وبين الجبهات الظلامية، إن لمحدودية معرفة المعارضة بالمجتمع السورى وتجاهلها لفاعلية منظماته المدنية، أو للعنف الشديد الذى يمارسه الطاغية ومن يقفون فى وجهه ويسفكون أيضا دماء الناس، أو لارتهان سوريا لإرادات إقليمية ودولية لا تريد منها إلا ساحة لصراع دائم. بعد انتهاء الجلسة، وأثناء تعبيرنا عن شىء من الإحباط لكون النقاش العام الذى أعقب مداخلتينا مداخلتى كانت عن ثنائية الاستمرارية والتغيير فى بلاد العرب وعن تفكيك وهم أن أوضاعنا المجتمعية والسياسية «لن تعود إلى الوراء» بتجدد الاستبداد والسلطوية وحكم الفرد لم يتجاوز حدود المعارك اللفظية والحروب الكلامية والخانات الأيديولوجية المعتادة فى المشرق العربى (اليمين، اليسار، الفكرة العروبية، فكرة المقاومة، الفكرة الطائفية، مع الخليج وأمواله، مع إيران وسلاحها)، أخبرنى سلام أن ما إن انتهت الجلسة حتى جاء إليه دبلوماسى إيرانى من سفارة الجمهورية الإسلامية فى بيروت وسأله بصوت خفيض عن «هوية الجهة التى تموله» (من يدفع لك؟) واصطنعت ملامح وجهه ابتسامة هادئة إمعانا فى الاستفزاز. لم يستفز سلام، وتجاهل الدبلوماسى الذى على الأرجح لم يرد إلا مواجهة انفعالية تنقلها بعض الصحف ووسائل الإعلام التابعة لإيران أو للطاغية السورى أو لحزب الله أو رغب فى فرض الخوف على باحث سورى مستقل يصنفه زبانية الطاغية كمعارض غير مرغوب به ويدرك جيدا نفوذ إيران لدى الطاغية وفى لبنان عبر حزب الله، بل وتجاوز أيضا الكثير من الألم العام بسبب دعم إيران لبقاء الطاغية فى الحكم ومواصلته لسفك الدماء وبعضا من الألم الشخصى لكون منزله فى حلب قد اقتحم من قبل زبانية الطاغية وسمح بالإقامة به لضابط إيرانى. تجاهل حفيد الكواكبى الفساد الأخلاقى والإنسانى والسياسى لحديث دبلوماسى، يمثل دولة احترم تماسك مؤسساتها وأجهزتها وأدين بشدة قمعها للحقوق والحريات فى الداخل الإيرانى ودعمها للاستبداد وللطائفية وللمذهبيات القاتلة فى سوريا والعراق ولبنان وأيضا فى اليمن وفى البلدان هذه جميعا، تتورط بعض الحكومات العربية فى دعم معكوس الاتجاه لاستبداد آخر ولطائفيات ومذهبيات أخرى قاتلة. *** 3) مخفر الشرطة: استمرت أعمال المؤتمر البيروتى الذى نظمه مركز كارنيجى لدراسات الشرق الأوسط فى جلسة ثانية عن مستقبل صنع السياسات العامة فى العالم العربى وتداخل بها وزير سابق للمالية فى لبنان ووزير سابق للخارجية فى الأردن. ثم أعقب الجلسة الثانية استراحة للمشاركين وللحضور، والتى ما إن بدأت حتى قدمت زوجتى ومعها ابنتنا لتخبرنى بسرقة جواز سفرها وأوراقها الشخصية وأشياء أخرى فى وسط مدينة بيروت وأن عليها الآن الذهاب إلى «مخفر الشرطة» للإبلاغ عن السرقة ثم الذهاب إلى السفارة المصرية فى بيروت لاستخراج وثيقة سفر مؤقتة لكى نتمكن من العودة إلى القاهرة والتى كان محددا لها الخميس الماضى. اعتذرت من المنظمين عن عدم استطاعتى مواصلة المشاركة فى أعمال المؤتمر، وذهبت مع بسمة وناديا إلى مخفر شرطة قريب. داخل المخفر، سارت الأمور بشكل هادئ وجيد، وبتعاطف واضح من عناصر «الأمن الداخلى» اللبنانى مع مأساة فقدان جواز السفر وكافة الأوراق الشخصية خارج الوطن، وبرغبة حقيقية فى مساعدتنا. سألنا عن احتمالات العثور على ما سرق، فقيل لنا إنها ضعيفة على الرغم من أن السرقة حدثت داخل متجر وهوية السارق وعملية السرقة سجلتهما بوضوح كاميرات المراقبة. سألنا عن أسباب ضعف الاحتمالات، فصدمتنا تفسيرات «عنصرية» تحمل اللاجئين السوريين مسئولية «الجرائم المتزايدة» فى بيروت ومناطق لبنانية أخرى، وتتهم جماعيا الأطفال والنساء السوريات بالتورط فى شبكات سرقة واحتيال ونصب على الرغم من احتضان الشعب اللبنانى لهم وﻷسرهم تذكرنا فورا المقولات العنصرية التى تطفو بين الحين والآخر على سطح النقاش العام فى مصر بشأن اللاجئين العرب فلسطينيين وسودانيين وعراقيين وسوريين وبشأن اللاجئين من الأفارقة، تذكرنا فورا مقولات العقاب الجماعى التى تروج فى مصر أحيانا بحق الشعب الفلسطينى فى غزة الذى يختزل فى أتباع حماس ثم تختزل حماس تابع لجماعة الإخوان المسلمين ثم الإخوان فى حركة إرهابية ثم تحمل ارتجاعيا مسئولية الإرهاب فى سيناء للإخوان ولحماس ولكل أهل غزة وتبرر «المقتلة الإسرائيلية» بحقهم. أثناء تجاذب أطراف الحديث مع عناصر «الأمن الداخلى» فى مخفر الشرطة، هزت جدران المكان صرخة مدوية لا تصدر إلا عن إنسان يعذب. سجل شرطى من المحيطين بنا تعبيرات الصدمة على وجه بسمة ووجهى، فقال «لا شىء، مجرد تحقيق مع أحد المشتبه بهم!» تذكرنا فورا المتواتر عن جرائم التعذيب فى مصر والحوادث الأخيرة التى تصاعدت إزاءها المطالبة بالتحقيق فيها وبمساءلة ومحاسبة المسئولين عنها، تذكرنا فورا كوننا فى هم التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان وفى هموم الاستبداد الأخرى عرب وفى المتن أيضا وليس على الهامش ولأمانة وموضوعية الطرح، أسجل امتنانى للمعاملة الرائعة التى وجدناها فى مديرية الأمن العام اللبنانى التى تعين علينا الذهاب إليها للحصول على «سمة مغادرة» لبسمة، وفى سفارة مصر ببيروت من قبل الدبلوماسيين والفريق الإدارى المعاون وأفراد أمن السفارة أصحاب الابتسامات الجميلة، وكذلك فى مطار القاهرة من قبل ضباط الجوازات المختصين والذين أشهد على حسن إدارتهم لمواقف إنسانية صعبة كفقدان الأوراق الشخصية وحوادث أخرى معنا ومع غيرنا.