الاقتصادية - السعودية جرت العادة أن تجني اللقاءات المهنية القليل من الاهتمام، فالصخب يتبع الاحتفالات والمجاملات والإثارة، وهذا يحصل في الغالب في مناسبات أخرى لا تتصف بالجدية المهنية أو تسيطر على أجوائها اهتمامات لا علاقة لها بتطوير مستوى المهنة. فوجئت منذ يومين وأنا أحضر ملتقى المحاسبة والمراجعة الثالث في مدينة جدة، حيث وجدت أن اللقاء قد بدأ، كما تشير الأجندة في الوقت المخطط له، وفي قاعة ضخمة مليئة بالحضور المبكر دون مقاعد شاغرة يمكن ملاحظتها. لا أعلم إن كانت اللقاءات المهنية في المجالات الأخرى تحظى بذات الاهتمام، إلا أنني أتمناها كذلك. للهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين التي ما زالت تنهض بالمهنة دور كبير في جمع المحاسبين والمراجعين دوريا وتحديثهم بالمستجدات وإتاحة فرصة تواصلهم وإثراء حضورهم، ويستحق منسوبوها، إضافة إلى منظمي الفعالية الثناء والتقدير، على الرغم من فسحة التطوير، التي لا تزال موجودة. الجهود المبذولة لنجاح أي لقاء أو برنامج مهني مطلب وطني مهم، فهي تؤطر لتحسين مستوى الممارسات ونقل المعرفة وترابطها واقع نتمناه لكل المهن والمهنيين. وقبل أن أستطرد ببعض ملامح الملتقى أشير إلى أن نجاحه، حسب ما يظهر لي كمشارك بالحضور، يعود إلى عدة أسباب من ضمنها حضور ضيف الشرف "معهد المحاسبين القانونيين الباكستاني" واستجابة الإخوة الباكستانيين غير المستغربة عطفا على وجودهم المؤثر والدائم ضمن جميع فئات الممارسين للمحاسبة والمراجعة في المملكة. كذلك، كانت رسوم الملتقى الرمزية "200 ريال فقط" واقتصاره على يوم واحد من أسباب نجاحه – على الرغم من أن مثل هذا المؤتمر يستحق ثلاثة أيام على الأقل ليتم طرح محتواه، كما يجب، إلا أن هذا قد يكون على حساب ملاءمته لجداول الحضور. وأخيرا، تزايد اهتمام الشباب باختبارات الهيئة وزيادة عدد خريجي المحاسبة يصنع بلا شك فارقا مميزا بين مؤتمرات المحاسبة في السنوات السابقة، وما يحدث اليوم من حركة ونشاط. وهناك بالتأكيد أسباب أخرى مرتبطة بجهود القائمين على الملتقى كذلك. كان موضوع الملتقى "المحاسبة والمالية: مواجهة التحديات المستقبلية"، ولم تخرج محاور اللقاء عن موضوعه. أشير إلى سيطرة المعايير الدولية والحوكمة وموافقة العمليات المحاسبية للشريعة على أحاديث اللقاء، وهذا طبيعي فهي من أهم المواضيع في مجال المحاسبة والإدارة في الوقت الحاضر. أما فيما يخص معايير المحاسبة الدولية فكانت العبارات تذكيرية وتأكيدية، وهذا هو المطلوب خصوصا مع استمرار مشروع التحول إلى المعايير الدولية كما هو مخطط له. إذ يقع الجزء الأكبر من الإعداد الآن على عاتق الشركات التي يجب أن تبدأ بتوعية إداراتها العليا حول آثار التحول إلى المعايير الدولية. ويتطلب الأمر أيضا تركيزا معتبرا على تأهيل المحاسبين، لأنهم صمام الأمان الأساسي في سير عملية التحول واتباع متطلباتها، كما يجب بعد ذلك. فعليا، لا يتبقى من الوقت إلا بعض الشهور على بدء ممارسة معايير المحاسبة الدولية في المملكة، فتاريخ التطبيق الذي يبدأ من الأول من كانون الثاني (يناير) 2017 يشترط المقارنة بأثر رجعي وفق متطلبات التطبيق لأول مرة. أتمنى أن يرافق هذا الزخم المرتبط بالمعايير الدولية تركيزا أكبر على المنشآت الصغيرة تحديدا، حيث إن الضغط المشترك من مصلحة الزكاة والدخل ووزارة التجارة والصناعة وهيئة المحاسبين القانونيين سيحفز بلا شك انتظام هذه المنشآت في إعداد حساباتها، حسب الممارسات المعتمدة، وهو ما لم يحصل بعد. أقل الفوائد هنا تحسين معدلات الربح بعد صنع القرارات بأساليب أكثر موضوعية، إضافة إلى رصد جزء معتبر من النشاط الاقتصادي الذي يمرر حاليا بطرق غير قابلة للرصد. تمت الإشارة كذلك من قِبَل أكثر من متحدث عن التطورات المتوقعة المرتبطة بزيادة الإفصاحات الشرعية في القوائم المالية. وأثيرت تبعا لذلك علاقة المحاسبين بالمعايير الشرعية وأهمية تناولهم لمحاسبة العمليات المتوافقة مع الشريعة بطرق أكثر شَجاعة. يرتبط هذا الموضوع بما سبق أن تناولته في بحثي لنيل درجة الدكتوراه. وهو موضوع مهم لا يزال في نظري في مرحلة الخمول على الرغم من أن تحوله منوط بجهودنا المحلية، حيث يتوافر لدينا معظم المقومات كالقوة الشرائية والمؤسسات المالية الضخمة والقدرات البشرية المتنوعة غير أننا نفتقر إلى الجرأة التطويرية لمعالجة هذه الأمور وما يرتبط بها من إجراءات وتأثيرات. يأمل هذا النشاط المهني إيقاع الأثر الإيجابي على ممارسي المحاسبة في منشآتنا المحلية، التي ترتبط سلوكياتها قبل ذلك بوعي الإدارات والقائمين عليها. ضوابط الحوكمة ونزاهة الإدارة تنعكس مباشرة في قيم الشفافية والموضوعية والنزاهة، وهذه القيم هي نفسها التي تتناولها المحاسبة بطبيعتها. ولكن بشرط، أن يتفاعل قارئ القوائم المالية والجهات التنظيمية وكل أطياف المهنة تحقيقا لذلك.