د.عمار علي حسن 24: الاماراتي في عام 2004 صدر لي كتاب صغير بعنوان "التحديث وتفكيك البنى الاجتماعية التقليدية: حالة اليمن"، درست فيه محاولة هذا البلد العربي القديم جداً أن يدخل إلى آفاق العصرنة، متخلصاً من رواسب الماضوية التي تشده بقوة إلى الخلف حيث الحضور الطاغي للتقسيمات الاجتماعية التقليدية بتشكلاتها القبلية والطائفية والفئوية، وبعض المظاهر التي لا تخلو من غرائبية مثل "الجنبية" و"الرهينة" و"القات". ولعل هذا المسار يقدم اقتراباً علمياً لتفسير جانب مما يجري في اليمن حالياً، حيث قامت ثورة شعبية من أجل إخراج البلاد من إسار الماضي، لكنها اصطدمت بعراقيل قوية آتية من أعماق هذا الماضي، فتعثرت، وأتاحت فرصة لثلاثة أطراف كي تتصارع على سرقتها، وهي: 1 الإخوان الذين تصرفوا في اليمن كما تصرفوا في غيره، متوسلين بالثورات والانتفاضات كي يحققوا مشروعهم الذي ينتمي إلى الماضي وليس المستقبل الذي أراد الثوار بناءه. 2 الحوثيون الذين رفعوا شعار "الثورة مستمرة" خلفهم وزحفوا إلي صنعاء تحت ستار مطالب اجتماعية تتعلق بالدعم والأسعار والفقر حتى تمكنوا من العاصمة وأصدروا إعلاناً دستورياً اختطفوا فيه السلطة باسم الثورة. 3 كل الإمكانات المرتبطة بالرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الذي ظل من خلال الجيش والقبيلة يطرح نفسه بشكل متدرج ومتفاوت في كل الحلول إلى أن أصبح طرفاً ظاهراً في الصراع، ويبذل قصاري جهده، بالسلاح والسياسة، في سبيل أن يكون في قلب أي تسوية سياسية قادمة، أو لا يتم وضع حد لنفوذ الحوثيين إلا من خلاله. وهذه الأطراف تستدعي وتوظف الماضي بتشكلاته وإمكاناته وحمولاته التقليدية التي لم يتم تفكيكها أو التقليل من آثارها، لاسيما تلك المرتبطة بالقبيلة والسلاح. والإخوان إن كانوا يطرحون أنفسهم من خلال مؤسسة حديثة تتمثل في "حزب سياسي" إلا أن هذا الحزب هو شكل حديث فقط، بينما المضمون تقليدي سواء على مستوى البناء، حيث تنتمي الجماعة في تكوينها وتراتبيتها إلى نمط قديم، أو على مستوى الخطاب حيث تريد أن تستعيد نظاما سياسيا واجتماعيا لم يعد صالحا لزماننا. واتباع هذا المسار في التحليل ينتهي بنا إلى القول باطمئنان إن الصراع الحقيقي في اليمن حالياً هو بين قوى الثورة المضادة بالأساس، سواء بإمكاناتها المحلية، أو بالأطراف الإقليمية والدولية التي تغذيها. ويزيد الطين بلة أن الطرفين اللذين يدخلان الصراع تدريجيا في الوقت الراهن، ويجدان فرصاً سانحة لتحقيق أهدافهما ينتميان إلى الماضي أيضاً، وهما: القاعدة وملحقاتها من "السلفية الجهادية" والحراك الجنوبي الذي يعمل على انفصال جنوب اليمن عن شماله. وهذا معناه أن كل الصراع في اليمن ضد ولادة مستقبل للبلاد، يفارق الماضي ولو بشكل متدرج، وبيني مشروعه التحديثي ولو على مهل. ومن أسف لا تلوح في الأفق أي بوادر لهذا المشروع الذي حلم به الثوارن وحوله الصراع على السلطة إلى كابوس تحضر فيه كل أشباح الماضي.