مكة أون لاين - السودية أعتقد أن عملية التمييز بين الطائفية والسياسة مثل عملية التفريق بين أعراض المتلازمة المرضية الواحدة. فخطوط المواجهة كثيرة ومتداخلة ومتشعبة ولا نستطيع التفريق بين ما هو طائفي وما هو سياسي. معروف أن الطائفية تنتمي لميدان السياسة من حيث المبدأ لا لميدان الدين كما عبر عن ذلك برهان غليون، وقد انتبه لذلك الفقيه محمد عبده مطلع العصر الحديث حين قال: «الفرق الإسلامية هي عبارة عن أحزاب سياسية». صحيح أننا نكرر عبارة: «التمذهب واختلاف الاجتهادات حالة صحية لكن احتكار الحق وتكفير الآخر وبناء على ذلك مواقف سياسية هو الطائفية بعينها». لكن الجميع يعلم هذا ومللنا من تكرار هذه العبارة الرومانسية، ومثلها العبارة المملة: نقدنا لإيران لا يعني نقدنا للشيعة ونقدنا لداعش لا يعني نقدنا للسنة...وإلى ما هنالك من هذا الغثاء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فالجميع تشبع من الكلام الوردي عن ضرورة نقد التطرف وضرورة تعزيز قيم التسامح والتأكيد على الاندماج الاجتماعي والتعايش السلمي، لكن الحقيقة لا أحد يفعل شيئا أو بالأصح لا أحد يريد أن يفعل شيئا. أعتقد أننا الآن وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى نزع فتيل الأزمة الطائفية ليس بتجاوزها والتربيت على أكتاف بعضنا البعض والتعامي عن التراث الأسود المليء بالحقد والكراهية والضغائن والتكفير، وإنما بتفكيك حقيقي للمنظومة الطائفية. فعماد العملية الطائفية برمتها كما هو مشاهد، فرق ومذاهب كل منها يدعي الحق ويكفر الآخر، وكل فرقة لها نظريتها السياسية الخاصة بها، وهنا منطقة خاضعة لنفوذ أجنبي مباشر، وغياب تام للديمقراطية، وتخلف تنموي، ونخب سياسية تستغل التراث الأسود للترويج لزعامتها، وفقهاء مداهنون يخشون على مكانتهم وجمهورهم وشعبيتهم...، وقطاع عريض من الناس الحمقى الذين تحركهم خطب الساسة الطائفيين، وأخيرا مثقفون إما مؤدلجون ومحملون بهذا التراث الأسود ويفضلون التغاضي عنه أو جبناء يخشون أن يكونوا منبوذين فيما لو حاولوا نقد هذا التطرف، أو سذج لا يريدون أن يكونوا مع طرف ضد طرف وكأن العملية ليست فكرا وحراكا مدنيا وإنما مباراة كرة قدم! وطالما أن القضية برمتها قضية سياسية، والتراكمات الفقهية عبر العصور ليست إلا نتاجا سياسيا محضا فليس هناك محيد عن مواجهة العملية الطائفية بكامل مكوناتها وليس فقط الاقتصار على جانب دون البقية. المشاهد الآن هو عكس ذلك تماما، فالسنة لهم نظريتهم السياسية الخاصة متمثلة في جواز بيعة المتغلب، وعصمة الصحابة والتشبث بحديث ال73 فرقة! والشيعة لهم نظريتهم السياسية الخاصة المتمثلة بالحق الإلهي واعتباره أحد شروط صحة الإسلام. وبدلا من أن ينمو الحراك المدني وتذويب الفوارق بين فئات المجتمع التي تتشابه تماما، يتم التعويل على السلاح وتأييد الجماعات المتطرفة لكسب حضور سياسي بقوة السلاح وبالجماعات التي ترتكز على تكفير الآخرين لإقامة دولة الله على أرضه! من الطريف هنا ألا أحدا يعول على الديمقراطية؛ فالديمقراطية في هذه الحالة هي صندوق يخضع للحسابات من منطق الأكثرية والأقلية ووسيلة لفرض الرؤى الفقهية الضيقة من خلال القانون بالتالي ليست مضمونة، لكن السلاح والعودة للطائفة والتترس بها أكثر ضمانا. والمحصلة إن حصلت حرب دينية شاملة في المنطقة لن تكون كالحرب الدينية الأوروبية التي أنتجت الديمقراطية والاندماج الاجتماعي، لأن المنطقة خاضعة لنفوذ أجنبي ووجود صهيوني أجنبي؛ بالتالي ستشبه إلى حد بعيد الحرب الطائفية اللبنانية التي استمرت ما يقارب العقدين وكانت نتيجتها أن كرست الانقسام الطائفي والتحصن بالطوائف. عندها ستنشأ دول الطوائف التي ستتناحر لألف سنة قادمة.