الاقتصادية - السعودية موضوعان لم يفارقا الأسواق العالمية في الأشهر القليلة الماضية. الأول هو الدولار، العملة التي زاد بريقها واخترقت الحواجز مثل الثور الهائج وصار أغلب العملات الأخرى بمثابة أقزام أمامها. الثاني هو النفط، السلعة التي تراجع دورها وسعرها ومعها النفوذ الاستراتيجي الهائل الذي كان يلعبه كبار منتجيها. الدولار والنفط مترابطان، لا بل توأمان. الدول النفطية تتقاضى ثمن نفطها بالدولار. انخفاضه معناه ترد في مدخولاتها مهما كان السعر عاليا، وارتفاعه وهيجانه كما هو الحال الآن ، زيادة في مدخولاتها مهما كان السعر هابطا. في أشهر قليلة خسر النفط نحو 50 في المائة من سعره في الأسواق العالمية، وهذا هبوط حاد قد لا تستفيق منه السلعة هذه لمدة طويلة لأن المشهد النفطي كما قرأنا على صفحات جريدتنا الغراء هذه بدأت تطرأ عليه تحولات تركيبية جذرية من الصعوبة بمكان التكهن بنتائجها. بيد أننا إن أخذنا التحولات في مديات الإنتاج، حيث صارت دول مستهلكة لملايين البراميل مكتفية ذاتيا مع فائض للتصدير والجهد المضني والأموال الطائلة التي تنفقها الدول الصناعية لكسر شوكة النفط من خلال البحث عن طاقة بديلة، لأصبحنا أمام سيناريو مفاده أن الخريطة النفطية التي تعودنا عليها في العقود الماضية في طريقها إلى التغيير وعلى المنتجين الكبار التكيف مع الواقع الجديد. تاريخيا ربما لم نشهد سلعة رئيسة تتهاوى بهذا الشكل. ولكن تاريخيا أيضا لم نشهد عملة تمور بهذا الشكل وتضيف نحو 25 في المائة إلى سعرها مقابل عملات رئيسة أخرى في غضون ستة أشهر تقريبا. فكما أن النفط خلق ارتباكا كبيرا في الأسواق العالمية وسيلا من المنتصرين والمنهزمين، كذلك الدولار "الهائج" الذي بسبب هيجانه ظهرت على سطح الاقتصاد العالمي جموع من المحتفلين وجموع من المنتحبين. وأظن أن الدول النفطية الرئيسة التي رأت أن مدخولاتها آخذة في الانحسار تنفست الصعداء جراء صعود الدولار. حيث زادت قيمته نحو 25 في المائة في الفترة ذاتها التي خسر النفط فيها نحو 50 في المائة من سعره. هذا معناه أن الدول المصدرة في الواقع خسرت 25 في المائة من مدخولاتها وليس 50 في المائة لأن نفطها مسعّر بالدولار. إن كانت "مصائب قوم عند قوم فوائد" قد تكون أيضا "فوائد قوم عند قوم مغانم" أو "فوائد قوم عند قوم مصائب". النفط الرخيص تباكت عليه الدول المنتجة وهللت له الدول المستهلكة. الدولار القوي رفع شأن أمريكا كدولة جبارة دون منازع تقريبا ولكنه كان بلسما على جرح الدول النفطية. الدولار القوي أظهر هشاشة بعض الاقتصادات الكبيرة لا سيما الدول التي تتخذ من اليورو عملة موحدة. أمريكا حقا دولة "هائجة" جبارة مهما كان رأينا سلبيا حول توجهات سياستها الخارجية، السياسة التي أساسها الازدواجية وعدم الثبات على موقف والنفعية والبراجماتيكية التي قد تفقد أي شرقي مترب على القيم القبلية والعائلية والدينية صوابه. التربية القبلية والثقافات والأخلاق الشرقية والدينية والمذهبية تجاوزتها هذه الدولة وأحلت محلها سياسة المصالح والفلسفة النفعية، أي أنني أمشي وراء منفعتي فحسب وإن تغيرت بوصلة منافعي ومصالحي سأغير سياستي، وإن أمورا مثل الأخلاق والدين والمذهب وما يراه الناس من المسلمات والمحرمات والنصوص المقدسة ليس إلا أمورا نسبية فحسب. ولهذا فإنها تتجاوز تقريبا في كل شيء المدى أو الخطوط الحمراء التي يضعها الآخرون لأنفسهم ليس في السياسة الخارجية بل في شؤون الاقتصاد والمعرفة والتكنولوجيا. قبل نحو أربعة عقود لم يكن هناك ربما أي ذكر لعمالقة الإنترنت من الأمريكيين الذين يحتلون الشبكة العنكبوتية والتكنولوجيا المرتبطة بها اليوم. شركات التكنولوجيا العملاقة التي تدير الدنيا اليوم مثل "أبل" و"جوجل" و"إنتل" و"مايكروسوفت" و"فيسبوك" و"سيسكو" و"أمازون" وغيرها تؤمِّن كل واحدة منها لهذه الدولة مداخيل قد توازي ما تحصل عليه الدول المصدرة للنفط قاطبة. العامل الرئيس وراء الارتفاع الحاد في سعر الدولار يكمن في انتعاش الاقتصاد الأمريكي الذي تزيت عجلته شركات التكنولوجيا التي أخذت تحرق مرحلة بعد مرحلة في سعيها للتفوق والريادة وهي تدهشنا في كل موسم تقريبا بعد أن كان حرق المراحل يستغرق سنين بمنتوج تكنولوجي جديد يجبرنا على رمي ما بحوزتنا في القمامة والاندفاع وأحيانا بطيش لاستبداله بمنتجها الجديد. مرات أسأل نفسي وأقول لو كانت هذه الدولة الجبارة رحيمة تمارس وتطبق الأخلاق الإنسانية الحميدة في سياساتها ولا تعتدي ولا تظلم ولا تقتل أنفسا بريئة ولا تغزو دولا ضعيفة وفقيرة، لربما كنا نعيش في عالم أفضل بكثير من الذي نحن فيه الآن. ولكن أعود وأقول متى كان المتجبر رحيما في التاريخ ومتى كانت دولة وإمبراطورية جبارة ذات سلطة بيدها العساكر والأموال وتتحكم في الاقتصاد والعباد وضعت مصالحها جانبا واستبدلتها بالمحبة والإيثار والأمانة والكرم والصدق والعدالة والأخلاق الإنسانية الحميدة؟