الاقتصادية - السعودية بشكل غير مسبوق، بدأت عبارات مثل "تقسيط بسعر الكاش" و"العمولة علينا" في الانتشار من خلال إعلانات الشوارع وغيرها من وسائل التسويق والترويج. هل من الممكن أن تكون تكلفة تقسيط السلعة على دفعات آجلة بقيمتها النقدية الاعتيادية نفسها، أم أن هناك تدليسا؟! لنتجاهل الإجابة عن هذا السؤال ولننظر إلى تطور العادات الشرائية لدى الأفراد وتنوع أساليب التاجر الذي يروج لسلعه، سنجد أن التغيير يحصل كل يوم، يكسب من يبادر به ويخسر من لا يستطيع مواكبته. بالنسبة للفرد، مواكبة التغيير الذي يحصل في الأساليب التسويقية تعني تفاديها بدرجة معقولة من الفهم والاحتياط، أما من يظن أنه يستغل كل فرصة جديدة في السوق فهو في الحقيقة ينخدع بها ويفقد قدرته على تطوير فهمه ومناعته ومناعة محفظته ضد العبارات الرنانة الجاذبة، سواء تلك الموجودة في إعلانات الطرق والصحف أو في المجالس ووسائل التواصل. من المنطقي أن نفترض أن التجار سيصبحون أكثر قدرة على فهم المستهلك وأكثر إبداعا في التعاطي معه. تكمن استراتيجياتهم الأهم في مباغتة المستهلك بالمغري واللافت والمفاجئ من العروض. لا تحدث المفاجآت إلا باستغلال الفارق الزمني أو المعرفي الذي يلاحظه التاجر، حينها فقط تكتسب عبارته ذلك السحر المؤثر الذي يطيح بالمستهلك ويطوع سلوكياته لتحقيق الأرباح. الوعي الاستهلاكي لدى الأفراد يشكل حاجز المناعة الأهم الذي يقيه الوقوع في شرك العروض الوهمية. وهذا ما يحدث، على سبيل المثال، لأي شاب في بداية حياته الوظيفية حين تقل التزاماته بشكل غير مسبوق يزيد دخله. تغيب مكونات الثقافة المالية لدى معظم الشباب في بداية حياتهم العملية، مكونات مثل الوعي بالذات، وتحديد الأهداف، وفهم ما يحقق القيمة له، وتحديد استراتيجية الصرف والادخار وإدارة الشؤون المالية اليومية. في غياب الثقافة المالية الجيدة تصبح آلية صنع القرار المالي هشة وتضعف مناعتها ضد المغريات. لذا، نرى من يجدد جهاز الجوال كل سنة أو ستة أشهر أو حتى يبدل سيارته الفاخرة التي اشتراها بنظام التأجير كل سنتين، على الرغم من الخسارة التي يتكبدها كل مرة! في لحظة الضعف تصبح المؤثرات الخارجية أقوى من المؤثرات الداخلية في صنع القرار المالي، هي حالة من عدم التوازن نبرر بها سلوكياتنا ونعبر عندها عن احتياجاتنا غير الحقيقية. أنا لا ألوم التاجر الذي يجب ألا يخرج عن الإطار الأخلاقي في كل الأحوال ولكن المستهلك هو المعني الأول بالأمر. يصنع المستهلك قيمة العبارة المكتوبة على إعلانات الشوارع تماما كعبارة "تقسيط بسعر الكاش" - فهو إما يهمشها بثقافته ووعيه أو يمجدها بممارساته الاستهلاكية. من يزر محال الأثاث والأجهزة الإلكترونية والكهربائية ومعظم منافذ التجزئة الكبرى والشعبية كذلك، يفاجأ بحالة النشاط والازدهار التي تعيشها. وهي حالة طبيعية إذا مزجنا كل الظروف الاقتصادية الاستثنائية مع درجة وعي المستهلك، المتدنية. يلمِّح لي أحد مسؤولي محال الأثاث الكبرى: "أعطني تأشيرات أكثر للحصول على مزيد من السائقين وسأبيع أكثر! لدي اليوم أكثر من 30 سائقا و30 سيارة يقوم كل منهم بإيصال خمسة طلبات يومية على الأقل". يعبر هذا التاجر بكل بساطة عن سلوك المستهلك الذي يوافق تطلعاته، لا يشكل المستهلك التحدي الأكبر له كما يحدث في أسواق الدول الأخرى. تشكل كل من الخدمات اللوجستية والمتطلبات التنظيمية عند هذا التاجر الحدود الفعلية لنمو تجارته، بينما سلوك المستهلك الشره ليس إلا عنصر النمو الأقوى الجاهز للاستخدام دائما. عندما نرى من يشترك في جمعية مالية لشراء ساعة "رولكس" تفوق تكلفتها مرتبه بعدة مرات يتضح لنا كيف يُعرّف بعضهم قيمة الأشياء. ومثله تماما من تستدين لشراء تلك الحقيبة الفاخرة. بالمناسبة، أصبحت حقيبة الألفين والثلاثة آلاف ريال رخيصة نوعا ما، حيث ارتفع المعدل السعري للحقائب الفاخرة إلى ما يقارب ثمانية آلاف ريال وربما أكثر. تناقض هذه السلوكيات الواقع الحياتي المملوء بالتحديات، ولكنها في الحقيقة توافق الواقع التربوي الذي استند إلى هشاشة معتبرة في الثقافة المالية، سواء على مستوى المدرسة أو الأسرة أو حتى القنوات الإعلامية والمجتمعية الأخرى. لا نستطيع لوم التاجر الذي يحاول أن يتكسّب بنزاهة وهو طبعا عرضة للوم والاتهام إذا تجاوز الحدود المهنية والأخلاقية ولا نستطيع أن نغير من الرواسب الاجتماعية التي صنعت هذا التكوين الثقافي الهش، ولكن يستطيع كل فرد أن يعزز من مناعته ومناعة أسرته الاستهلاكية. تناول مكونات الثقافة المالية والتعاطي معها بالتخطيط الاستراتيجي الشخصي وبدمجها مع التفاعلات اليومية كفيل بصنع عدسات ذكية تحجب عنا رؤية كل ما لا قيمة له، وتجعل ما يستحق الجهد والبذل واضحا ومتاحا.