الاقتصادية - السعودية نثريات الخميس 3 وأنا ذاهب لحائل ركب بجانبي شاب لتوه عاد من بريطانيا ليزور أهله في حائل. الفتي فهد مولع بالقراءة، وتبادلنا حديثا ماتعا في الطائرة، ما جعل الساعة والنصف تنقضي كوميض برق. فهد مع أنه يدرس الكيمياء لدرجة الماجستير مهتم بصفة خاصة بعصر النهضة الأوروبي، الذي أنا بدوري مهتم به لأنه نقلة كبرى من طبقات الظلام التحتية إلى عالم الفكر الاجتماعي والعلمي، ولاهتمامي الخاص بالأنثروبولوجي فنوعية العقل البشري الفردي الذي أسهم في بزوغ هذه الحقبة، عمقت هذا الاهتمام كمعروفين بقائمة كبيرة يقف على رأسها ليوناردو دافنشي، ومايكل أنجلو، وكريستوفر كولومبس، وجاليليو، وشكسبير. وترى أن أوائل المهمات الثقيلة تحملتها الرؤوس الإيطالية ما عدا شكسبير الإنجليزي، الذي كانت نقلته في تغيير اللغة الإنجليزية الوسيطة لتكون لغة قصة ومسرح ثم لغة سائغة للعلوم بدل اللاتينية التي كانت لغة العلم المبجلة واستعملها إنجليزي عظيم هو إسحق نيوتن. الشاب فهد متعلق بحقبة النهضة الأوروبية تعلقا رومانسيا وكثيرا ما أشار لها بعصر الأضواء، مع أن هناك فارقا بين عهد النهضة وعهد الأنوار، فالأنوار جاءت مباشرة بعد عصر النهضة. إلا أن نغزة شريرة طيبة جعلتني أنكد على فهد أحلامه اليوتوبية حول عصر النهضة. قلت له: "ليس هناك أي عصر بجمال خالص ولا شر خالص. في حقبة النهضة الأوروبية كانت الحياة سيئة، وشاعت القذارة الجسدية، حتى أن بريطانيا حرمت الصابون وبقي القانون منسيا طويلا حتى العهد الفيكتوري، وكان الفقر صفة العموم وصاحبه المرض. وجلب البحّارة مرضاً خبيثاً يبدأ من الأسنان هو "الإسقربوط" تقع به الأسنان وتبقى اللثة كتلة لحمٍ رخوٍ نازفة. وهي الفترة التي غزا فيها الطاعون أوروبا فحصد أرواح ثلث سكان القارة". «معليش» فهد سامحني! في المنطقة الشرقية حملة قوية ومنظمة للتشجيع على التبرع بالأعضاء، ولكن متى بدأ الطب فعلا يفكر عمليا وعلميا في زراعة الأعضاء التي كانت حتى أواسط الخمسينيات ضربا من ضروب الخيال العلمي؟ نحن الآن في عام 1954م، بمدينة بوستن الأمريكية بالتحديد في مستشفى بيتر بنت بريجهام، في غرفة العمليات بالمستشفى يرقد شخصان مخدران. شخص نُزِعت منه كليته الصحيحة لتزرع في الآخر الذي يعاني فشلا نهائيا في وظيفة الكليتين. ولكن كيف؟ وعلم المناعة لم يتقدم ليعرف ما الذي يجعل الجسد يرفض عضوا غريبا يزرع فيه. السبب لأن الشخصين المخدرين هما توأم متطابق Identical Twins ويعني هذا بمفهوم الفسيولوجيا أنهما متشابهان في كل شيء بتركيبهما النسيجي، وبالتالي لا يلاحظ الجهاز المناعي لجسد المريض المزروع فيه العضو الصحيح أن شيئا "مُريباً" قد حصل. من ذلك اليوم وعى البيولوجيون أن نقل عضو لجسم آخر ممكن؛ فقط عليهم فهم السلوك المناعي الحيوي وإيجاد الحل ضد هيجانه وغضبه. الآن تنجح أكثر من 80 في المائة من عمليات الزرع لخمس سنوات نتيجة ذلك السعي العلمي الذي لا يعرف الاستسلام. لفتني اليوم عامل الفندق الهندي وهو يسألني: "فيه كشرة؟". ورحلت تأملا مع كلمة كشرة التي قصد بها القمامة. تأملٌ بهذا السقوط في تحقير البشر من البشر، بينما كرم الله الإنسان. ففي ديانة الهندوس طبقات من محترمة إلى مقبولة، تبدأ بالبراهمة وخلقوا من وجه الإله "براهما" كرمز للشرف والإجلال، ثم "الكشتريين" طبقة الجيش، خلقوا من ذراعي الإله رمز العنفوان والقوة، ثم طبقة "الويشيين" وخلقوا من فخذي الإله وهم الموظفون والمهنيون، ثم طبقة "الشودرا" مخلوقون من قدم الإله لأنهم الخدم والنفّيعة. ثم تأتي طبقة مسحوقة مكروهة لا تُمَس ولا يُقترب منها، ولا يُعرَف كيف خلقهم الإله براهما.. لا، والحلو حتى هو لا يعرف. هؤلاء المنبوذون يسمون بالدارجة الهندية "الكشرة"، أي القمامة. ما أقول إلا الحمد لله «بس» والشكر.