د. عبد الله القويز الاقتصادية - السعودية عندما شاركت في الدورة الثالثة عشرة لمؤسسة الفكر العربي التي عقدت في المملكة المغربية من 5-3 كانون الأول (ديسمبر) 2014، صعقتني روح الإحباط والنظرة التشاؤمية التي كانت طاغية على من شارك من النخبة العربية في ذلك المؤتمر، لانتشال أمتنا من هذه الحالة المدمرة، لا بد من التفكير الخلاق والعمل الجاد للخروج من المأزق. إن أفضل طريق إلى ذلك هو تسريع خطوات تحقيق الوحدة العربية، إن هذه الوحدة ليست حتمية، وليست مطلوبة لذاتها، إنما هي ضرورية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للأمة كالقوة العسكرية لصد الطامعين، والتقدم الاقتصادي لرفع معدلات النمو عن طريق توسيع السوق وزيادة تدفق الاستثمارات وحرية حركة العمالة وعناصر الإنتاج الأخرى والوصول إلى مستويات تقنية عالية عن طريق حشد مزيد من الموارد والعقول لإجراء البحوث وتحقيق الإنجازات العلمية. لذا، أقترح على مراكز الأبحاث ودور الفكر أن تركز اهتمامها على القيام بالدراسات ووضع خريطة طريق للوصول إلى هذا الهدف النبيل. إن تحقيق الوحدة عملية تحتاج إلى نفس طويل، لأن طريقها بالغة التعقيد من النواحي الفنية والسياسية، وحتى تكون الوحدة قابلة للاستمرار لا بد أن تتم عن طريق التفاوض بين أطراف متكافئة لضمان مصالح كل طرف، ولا ينبغي الانتظار حتى تكتمل الدراسات ويتم الاتفاق على الاستراتيجيات حتى يعرف كل طرف ما ذا سيجني من هذه الوحدة، فالتجربة الأوروبية وتجربة مجلس التعاون أظهرتا أنه في الوقت الذي يتم فيه الترابط والتكامل بين الوحدات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، يتم كذلك بناء المؤسسات الاتحادية، وباعتبار الدول العربية دولا نامية لم يكتمل بناء مؤسساتها الإدارية ولا كتابة كامل منظومتها القانونية، فإن الوحدة ستدفع هذه الدول إلى سد هذه الثغرات، بمعنى آخر يجب أن تكون الوحدة تدريجية وتعليمية وأن تحل المشكلات وتستكمل النواقص أثناء بروزها، فهذه القضايا لا يمكن التنبؤ بها ووضع حلول لها قبل البدء في العملية الوحدوية، كما أزعم أن هذا المشروع سيقود بشكل غير مباشر إلى انتشار وترسخ الديمقراطية في الدول الأعضاء بدافع المحاكاة ومسايرة المرحلة، كما لمسنا في مجلس التعاون وإلى حد أكبر في التجربة الأوروبية. لكن، كيف لنا أن نتكلم عن الوحدة العربية في الوقت الذي تعيش فيه دول عربية عدة مخاضا سياسيا أدخل بعضها في دوامة من عدم الاستقرار أيقظت خلافات دينية ومذهبية وقبلية ومناطقية لدرجة أن بعضها أصبح غير قادر على إدارة شؤونه الداخلية، ناهيك عن قدرته على التفكير في العمل الوحدوي! للرد على ذلك يجب ألا ننسى أن أوروبا بدأت خطواتها الوحدوية بعد حربين طاحنتين أعادتا رسم الخريطة السياسية الأوروبية، كما أن الوحدة الأمريكية لم تترسخ إلا بعد مائة سنة من عدم الاستقرار، أعقبتها حرب أهلية مدمرة، لذا فإنه رغم الانكسار وخيبة الأمل والمرارة السائدة حالياً إلا أن الأيام المقبلة ستثبت أن هذا الحراك السياسي الذي نشهده حالياً لن ينكفئ على نفسه وسيحقق أهدافه ومنها الوحدة العربية. ما التحديات التي يمكن أن تعيق هذه الطموحات؟ في الجانب الاقتصادي يمكن إجمال هذه التحديات فيما يلي: الأول: ما يمكن أن أسميه بالتحدي المؤسسي، ففي عام 1945 أنشأ العرب جامعة الدول العربية بهدف التعبير عن وحدتهم ومصيرهم المشترك ومناقشة قضاياهم السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية.. إلخ، وقد انبثق عنها لاحقا مؤسسات واتحادات ومجالس وهيئات متخصصة وصناديق تنموية وتعاون في مختلف المجالات، وشركات ومؤسسات وهيئات استثمارية في المجالات الصناعية والزراعية والثروة الحيوانية والبترولية والنقل البحري... إلخ. كما وقعت الدول العربية في إطار الجامعة اتفاقيات اقتصادية منها حماية وتشجيع الاستثمار واتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي مضى على دخولها حيز التنفيذ أكثر من عقد من الزمن، ومع ذلك لم تقترب الدول العربية قيد أنملة من الاندماج الاقتصادي المنشود كما تدل على ذلك أرقام التبادل التجاري البيني مقارنة بالحجم الكلي للتجارة العربية (الجدول رقم 1). في اعتقادي أن ذلك يعود إلى عدة عوامل: أ إن مؤسسة الجامعة العربية لم تنشأ لتحقيق الوحدة العربية وإنما للمحافظة على استقلال دولها الأعضاء وحماية تلك الدول من التعدي على سيادتها خصوصا من الدول العربية الأخرى، كما أثبتت الأحداث ذلك. لذا فإن التوجه نحو الوحدة يقتضي مراجعة شاملة لفلسفة وهياكل واتفاقيات مؤسسة الجامعة العربية وما انبثق عنها من مؤسسات. ب إن صناديق التنمية والتعاون الاقتصادي وشركات الاستثمار التي أنشئت في إطار التعاون الاقتصادي العربي المشترك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لم يكن الهدف من إنشائها تحقيق الترابط القطاعي للاقتصاديات العربية ونموها المشترك، بل كان القصد إيجاد قنوات إضافية لتحويل جزء من الأموال الفائضة إلى دول العجز. وحتى تلعب هذه المؤسسات الدور التنموي المطلوب إضافة إلى تحقيق الأهداف التكاملية لدفع جهود الوحدة إلى الأمام لا بد أن تقوم الدول العربية بإعادة النظر في الأهداف التي وضعت لهذه المؤسسات وإعادة توجيه خطط عملها نحو تحقيق الوحدة الاقتصادية. ولعل من حسن الطالع أن القمة العربية التي عقدت قبل سنتين قد أقرت مضاعفة رؤوس أموال هذه المؤسسات، ما سيمكنها من لعب دور أكبر لتحقيق الهدف المنشود. الثاني: هو العامل الديموغرافي: تعتبر الزيادة السنوية للسكان في الدول العربية من أعلى النسب عالميا (يصل متوسط الزيادة لجميع الدول العربية حسب آخر تقدير إلى 2.4 في المائة سنويا). كما أن، الزحف من الأرياف إلى المدن يسير على قدم وساق بخطى متسارعة. هاتان الظاهرتان يمكن النظر إليهما إيجابيا حيث تتوافر بواسطتهما قوة عمل شابة وقوة شرائية أكبر، وإذا أمكن استغلالهما بكفاءة أكثر فسيؤدي ذلك إلى ارتفاعات مستمرة في معدلات النمو الاقتصادي. كما أن هذه الزيادة قد تتحول إلى قنبلة موقوتة إذا لم تحصل على نصيبها من التعليم والتدريب السليم الذي يمكنها من لعب دورها الطبيعي في العملية الإنتاجية وتحقيق تطلعاتها في الحرية والعيش الكريم. إن تسريع خطوات التكامل الاقتصادي العربي سيزيد من فرص استغلال الزيادة السكانية في العملية الإنتاجية ويسهم في إرساء أسس الاستقرار في المنطقة. الثالث: هو التحدي الأيديولوجي: دون الدخول في مناقشات فكرية، أثبتت التجربة وحكم التاريخ أن الشيوعية أو أيا من اشتقاقاتها الاشتراكية لا تصلح كنظام سياسي يقود إلى تمثيل عادل لكل فئات الشعب ويحقق الشفافية في اتخاذ القرارات، وأنها كنظام اقتصادي عجزت عن تحقيق التنمية المطلوبة وتكافؤ الفرص. كما أن نظام الحزب الواحد أو الحزب القائد أو الحزب القومي إلى غير ذلك من المسميات قد فشل في القيادة وفي تحقيق العدالة وفي زيادة معدلات النمو وفي المضي نحو تحقيق الوحدة. لذا فإن التمثيل البرلماني المدعوم بتلاقح الأفكار والحاضن لوجهات النظر المختلفة هو أصلح نظام سياسي. كما أن المبادرات الفردية هي أنجع السبل لتحقيق النمو الاقتصادي. لا شك أنه سيكون لذلك إفرازات سياسية واقتصادية واجتماعية غير محمودة، إلا أن السلطة الوطنية تستطيع التخفيف من آثارها عن طريق عدالة القوانين والمساواة في التطبيق وتبني شبكات أمان اجتماعية لمعالجة هذه الإفرازات وتشجيع إقامة المنظمات غير الحكومية لأداء أدوار رديفة لأجهزة الدولة لتعليم السكان تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية والقيام بدور مساعد في مراقبة أداء الأجهزة الحكومية. الرابع: هو موضوع الطاقة: لعب قطاع الطاقة وعلى الأخص البترول والغاز دورا حيويا في إعطاء قيمة مادية ومصلحية للتعاون الاقتصادي العربي، حيث أسهم في إيجاد فرص عمل لملايين العمال العرب في دول عربية غير دولهم، وصل مجموع تحويلاتهم إلى دولهم خلال الفترة 2008 2013، على سبيل المثال، قرابة 94 مليار دولار (انظر الجدول رقم 2). كما وفر التمويل اللازم لمشاريع التنمية الاقتصادية والهياكل الأساسية في الدول العربية البترولية وغير البترولية. فقد أظهرت الإحصائيات أن حجم المساعدات التي تلقتها الدول العربية من الدول العربية المانحة بشكل مباشر عن طريق مؤسسات التمويل الإقليمية التي تسهم الأخيرة بغالبية رؤوس أموالها قد بلغت خلال الفترة 1990 – 2012، 254 مليار دولار. إلا أن التقدم التكنولوجي سواء في مجال استخراج الوقود الصخري أو في مجال الطاقة البديلة هو في طريقه إلى التقليل من أهمية دور قطاع الطاقة العربية في تسيير عجلة الاقتصاد العالمي، وهذا يفرض على الدول العربية دراسة الوضع وتبني برامج مشتركة لمواجهته بما في ذلك تطوير الطاقة الشمسية. كما أن تسريع خطوات التكامل الاقتصادي ستزيد من قدرة الدول العربية مجتمعة على تنويع اقتصاداتها وتسريع نموها الخامس هو التحدي الاقتصادي الخارجي: وفي هذا المجال يمكن في الوقت الحالي إبراز نقطتين على الأقل: ا إن الخريطة الاقتصادية ومعها الأولويات الاقتصادية العالمية دائمة التغير، فمن جهة ينتقل الثقل الاقتصادي شرقا، كما أن القوى الاستعمارية السابقة تحولت إلى شريك استثماري وتجاري، فأعداء الأمس أصبحوا أسواق اليوم، ومصدري التقنية والخبرة الإدارية. من جهة أخرى فإن منظمة التجارة العالمية رغم نجاحها في صياغة اتفاق دولي أثناء اجتماعها الأخير في إندونيسيا أحبطته القيادة الجديدة في الهند إلا أن العالم فقد الأمل في جعل هذه المنظمة أكثر فعالية، وكثف جهوده نحو توقيع اتفاقيات تجارية بين المناطق الجغرافية المختلفة، فالولايات المتحدة، بعد أن نجحت اتفاقيات التجارة الحرة التي وقعتها مع دول الأمريكيتين، دخلت حاليا في مفاوضات مع كل من الاتحاد الأوروبي من جهة ودول المحيط الهادي. من جهة أخرى لوضع اتفاقية للتجارة الحرة بينها وبين هاتين المنطقتين، ينوي الاتحاد الأوروبي استنساخ التجربة الأمريكية مع دول المحيط الهادي، على الدول العربية أن تبادر كمجموعة للدخول في مفاوضات تجارية مع شركائها التجاريين الرئيسيين لتسهيل دخول منتجاتها إلى أسواقهم وإزالة أي عوائق جمركية وغير جمركية أمامها، وحتى لا ينحسر دورها تدريجياً في النظام التجاري الدولي. 2 لأسباب تخصها تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الدول العربية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وغالبية الدول العربية المعنية ترحب بهذا التوجه لما سيجلبه لها من مساعدات تنموية إضافة إلى انفتاح السوق الأوروبية أمام منتجاتها، فإذا نجح هذا التوجه ونتج عنه مزيد من التدفقات التجارية والاستثمارية وتعزيز ترابط المصالح بين المنطقتين، كما تشير التوقعات، فإن ذلك قد يكون على حساب التوجه نحو ترابط المصالح بين مكونات الوطن العربي خصوصا بين مشرقه ومغربه. لذا لا بد لصانعي القرار الاقتصادي العربي من تدارس هذا الموضوع للاتفاق على الخطوات اللازمة للتعامل معه وتحويله إلى عامل مساعد لتحقيق هدف الوحدة.