التقرير الكندية -1- الأنساق المغلقة رحم الله كل الأبرياء المغدورين في جريمة قرية الدالوة، لا شيء يثير الفزع أكثر من الاقتراب من جرائم طائفية متتالية، إنها تبدو كالنفق المظلم الذي لا يدري الداخل فيه متى يخرج منه، ولا كيف، ولا بأي خسائر وفواجع محتملة. منذ اللحظة الأولى لتلك الجريمة، توالت التحليلات والإدانات والمطالبات، وهي أسرع بكثير من التحقيقات الأمنية التي لم تعلن حتى كتابة هذا المقال عن تفاصيل الجريمة، لكن ما حدث هو ربط يقيني من قبل كثير من الكتاب والمثقفين والناشطين لهذا الفعل الإجرامي بالطائفية، وربط هذا الفعل الطائفي بسبب رئيس، وهو خطاب الكراهية. هذا يقودنا إلى الحديث عن الأنساق التي تُبنى لتفسير الأحداث، دائمًا يفضل القارئ أن لا يرى الحدث منفردًا، وأن يراه ضمن سلسلة متصلة من الأحداث، ليسهل عليه تفسيره. ثم يتحول هذا النسق إلى أداة تفسيرية لكثير من الأفعال. وفي الأحداث التي تحمل أبعادًا سياسية تقوم بعض الأطراف ببناء عاجل لنسق دون كثير من الإثبات ولا الاستدلال، ثم يتم تعميمه بخطاب يقيني وكثيف، بحيث يصبح سلطة على المتلقي. ومع وقت يسير، يصبح هذا النسق مغلقًا ويبدو بنية جاهزة وفكرة متسلطة لا يمكن زعزعتها، وتغدو بعد ذلك أداة تفسيرية لكل فعل لاحق؛ بل يتم استرجاع أفعال سابقة ليعاد تفسيرها وفق هذا النسق الجديد، وتعاد كتابتها بصياغة تعبيرية جديدة. من هنا، تأتي خطورة هذا النوع من التعامل العاجل مع الأحداث المفاجئة، فمن يستطيع استثمارها أسرع سيكون هو الغالب. هذا النسق الذي بُني سريعًا في الأيام الماضية، والذي يقوم على فرضية ربط الحادثة بخطاب الكراهية الداخلي، والذي يسعى كثير من الكتّاب والمثقفين والنشطاء من خلاله إلى إقرار قانون يجرّم هذا النوع من الخطاب، هذا النسق بحاجة إلى تفحص. فهل تجريم خطاب الكراهية هو فعلًا علاج لواقعنا وأمان له من حدوث جرائم طائفية قادمة، أم أنه استثمار سياسي للحدث؟! والفرق كبير بين الأمرين، فإن قلنا إنه علاج وأمان، فهو يعني أن من يدعو إليه هو يؤمن فعلًا بأن سبب هذه الجريمة الرئيس، هو خطاب الكراهية الداخلي، ويبدو أننا إذا تفحصنا الأمر سنجد ثغرات كثيرة ونقاط ضعف ليست باليسيرة في هذا التفسير. أما لو اكتشفنا أنه استثمار سياسي للحادثة فسيكون هذا الاستثمار هو الفعل الطائفي -بالمعنى السياسي لكلمة (طائفة)- حيث تسعى الطائفة إلى زيادة مكتسباتها من خلال كل حدث سياسي ممكن؛ وبالتالي، تكون الطائفة هي المعنية بالنسبة لها وليس مستقبل الوطن بشكل عام، وهو اتهام أعي خطورته، وأعلم مدى الجرأة في إطلاقه. أنا شخصيًا ضد خطاب الكراهية، ومؤمن أن من حق كل إنسان أن يعبّر عن اعتقاده، وأن يمارس دينه الذي يؤمن به، وأعتقد أن خطاب الكراهية أحد الأسباب، دون القدرة على تحديد أهمية وموضع هذا السبب في هذه الحادثة. فرق كبير بين أن أقول إن خطاب الكراهية سبب مهم، وبين إطلاقي بأنه السبب الأهم أو الرئيس. أتحدث هنا عن أمر محدد، وهو تحليل ردة فعل كثير من المثقفين بشكل سريع وملفت للنظر حول جريمة الدالوة التي فجعنا بها. وهو تعجّل يثير القلق، والحقيقة أن أي تعجّل لإغلاق نسق تفسيري للحادثة، تعقبه مطالبات سريعة يثير القلق. خاصة في ظل وجود ثغرات كثيرة في هذا الربط، فهناك أوقات عصيبة مررنا بها، كان من المنطقي أن يتجه هؤلاء الشباب للعنف والقتل فيها أكثر من هذه الأيام. أستطيع أن أقرأ هذا النسق في سياق الصراع بين المؤسسة الدينية والتيارات الدينية من جهة و كل الآخرين من جهة أخرى، كل من يمكن أن يوصف ك(آخر) بالنسبة للمؤسسة الدينية بمن فيهم الأقلية الشيعية. ويبدو أن استثمار هذه الحادثة من أجل إعادة المؤسسة الدينية خطوة إلى الوراء مهم جدًا، وقد يشكل منعطفًا في الخطاب الديني السعودي، وهو مكسب لا يمكن الاستهانة به على كل حال. إذا كنتُ شخصيًا ضد خطاب الكراهية، وأظهر نقدي الدائم للفكر الديني السائد، فما الذي يزعجني في استثمار هذا الحدث من أجل إصدار قانون يجرم هذا النوع من الخطاب، لماذا أبدو غريبًا هنا في هذه المقالة ولا أصطف مع كل من يحاول أن يتقدم خطوة للأمام ويحرز نقطة لصالحه؟ الواقع أنني أقوم بذلك؛ لأن من واجب المثقف أن يفكك الأنساق الموهومة، وأن يعيد الاعتبار للحدث كحدث مستقل كلما رأى أن هناك علاقات وسلسلة موهومة من الأحداث يتم بناؤها. هذه البُنى الموهومة التي يتم استثمارها أيديولوجيًا، ستكون لها عواقبها الوخيمة على مشكلة العنف الطائفي نفسها. فإذا لم يكن خطاب الكراهية هو السبب الرئيس ومضينا كلنا باتجاه تجريمه، فحتمًا هناك سبب أو أسباب رئيسة أخرى تم تشتيتنا عنها، وستبقى تغذي العنف الطائفي الذي قد يتفجر في لحظة ما، ولا يقدر أحد على إيقافه، ويكون هذا النسق الموهوم والذي بُني لمصالح أيديولوجية هو ما تسبب في ذلك. -2- خطاب الكراهية.. أم أسباب أخرى؟! هناك رغبة في عدم التطرق لأسباب أخرى لها علاقة بالعنف الطائفي، مثل الوضع الإقليمي الخارجي؛ بل هناك إرهاب يمارس بشكل غريب يصف كل من يتحدث عن الأسباب الخارجية بأنه بدافع طائفي. العنف الطائفي ينشأ عن أسباب مختلفة ومتراكمة ومتداخلة، وتاريخيًا لم يكن الدافع الديني هو السبب دائمًا في الحروب الأهلية؛ بل حين توجد الدوافع الحقيقية للحروب الأهلية يبحث الناس عن الأرضية التي تحمله والقالب الذي يتشكل فيه، وفي اعتقادي أن الخطاب الديني هو أحد هذه القوالب، كما أن العرق واللغة والأرض هي من هذه القوالب أيضًا. في تاريخ السنة والشيعة الكثير من الآراء والمواقف التي تدعو إلى التسامح والتعايش، كما أن في تاريخهما الكثير مما يدعو إلى العنف والقتل، وحين يرغب الطرفان في التعايش يتم استدعاء ما يدعو إلى ذلك تاريخيًا، والعكس صحيح. لا يعني هذا أن يترك خطاب العنف جانبًا؛ بل يجب اقتلاع البيئة الصالحة للعنف، يجب أن تكون البيئة طاردة لأي عنف أهلي، لكن بالمقابل هي بيئة حاضنة، وهناك أسباب كثيرة أخرى يجب أن لا يتم تجاهلها. هناك أحداث إقليمية لا يمكن التغافل عنها، منها الموقف من حكومة بشار، والموقف من الدعم الإيراني له، والموقف من تدخل حزب الله في سوريا، وكذلك الموقف من حكومة المالكي في العراق وسياساته الطائفية تجاه السنة، ليس الكلام هنا على الانتماء المذهبي؛ بل عن الموقف السياسي. لو كان لي الخيار لقلت إنه من المضر جدًا في الحالة الوطنية أن يتم تصدير أو جلب المواقف السياسية من الخارج، يجب أن ننظر إلى الوطن في داخل حدوده. لكن، القضية ليست فيما (يجب) بل فيما يحدث في الواقع؛ لذلك، لست أرغب هنا في إلقاء اللوم على الشيعة بقدر ما أرغب في توصيف الحالة، وهي أنه من غير الممكن أن يتم الحديث عن الحالة السنية الشيعية في داخل الحدود بمعزل عن الخارج. هكذا يفكر كلا الطرفين، سواء اعتقدنا بصحته أم خطأه. لماذا لا نتمسك بمفهوم (المواطنة)؟! أعتقد أن هنا مخادعة كبيرة، فمفهوم (المواطنة) في العالم العربي يبدو أعرج؛ لذلك، من الخطير جدًا الحديث عن الدولة الحديثة ومفهوم المواطنة كما لو أننا في دولة غربية، علينا أن نكون حذرين في أي إسقاط يخص الدولة الحديثة، هناك واقع للحالة السنية الشيعية يجب فهمها كما هي. - 3- تجريم خطاب الكراهية.. ما هو الممكن؟ أعود إلى التأكيد بأنني لا أنكر أن خطاب الكراهية هو أحد الأسباب المهمة، وأن قلقي هو من محاولة حصر الجريمة في هذا السبب. وعلى كل حال فتجريم خطاب الكراهية مكسب مهم كما ذكرت سابقًا. إنّ أي مجتمع يمتد لرقعة جغرافية واسعة، ويصل عدد سكانه للعدد الذي وصلت إليه بلادنا، إضافة للتراث والتاريخ الممتد للمنطقة، يعني إن التنوع سيكون سمةً أساسيةً له، بغض النظر عن الأغلبية والأقليات، فليس الأمر محصورًا في أقلية شيعية وأغلبية سنية؛ بل مجتمعنا يتكون من فرق ومذاهب واتجاهات فكرية ورؤى إسلامية متعددة، بعضها قديم وضارب في التاريخ، وبعضها حديث يتم إفرازه وفق السياقات المختلفة. وإذا تحدثنا عن تجريم خطاب الكراهية فيجب أن يتجه للجميع لا لطائفة معينة، حتى لا نصل إلى مرحلة تكون فيها أقلية ما ذات حصانة، وما تزال الاتجاهات المذهبية والفكرية الأخرى تعاني من عنف الخطاب الديني. ما المقصود من خطاب الكراهية والعنف والتكفير والتحريض؟ أعتقد أنّ الدخول في هذه التفصيلات مضر في هذه المرحلة؛ بل سيكون جزءًا من التشتيت، فحين توجد الإرادة السياسية من أجل تجريم ومنع هذا الخطاب، سيكون من الممكن النقاش حول محددات هذا الخطاب وطرح إشكالياته، وخطورة تغوله هو الآخر. فمن الخطورة بمكان أن تتحول (الكراهية) إلى مصطلح شبيه بالإرهاب، لا يوجد اتفاق على تعريفه، وثمة سلطات كثيرة تتمتع بحرية توظيفه. هناك مستويات عدة يمكن الحديث عنها في تجريم هذا النوع من الخطاب، الأول: مستوى يتم فيه تجريم الخطاب بقوة القانون، دون قناعة من قبل المؤسسة والتيارات الدينية المعنية. وبقوة القانون ستنجح الدولة في منع هذا الخطاب، وستكون له إيجابية كبيرة في منع التحريض العلني؛ بل في إيقاف هذا النوع من الخطاب في المدارس خصوصًا، وسيكون أثره في التعليم والإعلام واضحًا. وخطورة هذا المستوى أن هذا الخطاب العنيف سيبقى تحت الأرض وسيزداد تطرفًا، وسيكون بعيدًا عن عيون كل من يود مناقشته أو تفنيده أو دحضه، وسيكون من الصعب جدًا تحديد مستوى تطوره وتطرفه؛ بل غالبًا سيؤدي إلى تطرف أكبر في دوائر مغلقة أصغر. المستوى الثاني: هو أن يحدث تحول حقيقي براغماتي في المؤسسة والتيارات الدينية، يقوم هذا الخطاب البراغماتي على أساس أن المواطنة مصلحة عليا، وأن تجاوز ولي الأمر في التعامل مع ما تراه المؤسسة الدينية منكرًا سيقودنا إلى فتنة عظيمة. ويجب أن أنبه إلى أن وصف البراغماتية هنا ليس سلبيًا بالضرورة، فجزء من طبيعة كل فاعل اجتماعي وسياسي أن يكون نفعيًا براغماتيًا. فالقناعات والأفكار تخضع لما نراه مصلحة واجبة في مجتمعنا. ويجب أن لا نقلل من أهمية هذا النوع من التحول؛ لأنه قد يكون تحولًا دائمًا ومستمرًا. وقد شهد تاريخ المؤسسات الدينية على اختلافها وتنوعها وتشددها وتساهلها، أنها قادرة وبشكل مدهش على التحول البراغماتي، وقادرة على إقناع أتباعها بمدى مصلحة هذا التحول، وقادرة أن تتكيف معه بشكل دائم. المستوى الثالث: هو أن يحدث تحول حقيقي وجذري في فكر المؤسسة والتيارات الدينية، يقوم هذا التحول على اعتبار أن الإنسان حر في دينه وعقيدته، ومن حقه أن يمارس دينه بالشكل الذي يراه صوابًا، وكونك ترى طريق فلان إلى الله خطأ، لا يعني أن تقوم بمنعه، ويصبح بالتالي خطاب النقد الديني معزولًا عن أي فعل عنيف تجاه الآخر. هذا التحول الجذري من المستبعد أن يحدث دون مقدمات، ودون جدل حقيقي داخل التيارات الدينية؛ بل ما يمكن أن يحدث هو أن يقود المستوى الثاني إلى الثالث. أي أن يحدث تحول براغماتي حقيقي ودائم يؤدي بعد فترة من الزمن إلى المستوى الثالث، أو بالأصح يسمح بظهور المستوى الثالث. وهو التحول الجذري تجاه حرية الرأي والفعل الديني. ما الذي قد يدفع المؤسسة والتيارات الدينية إلى إحداث تحول براغماتي دائم ومستمر؟ يجب أن نقرّ أولًا أن هذا النوع من التحول هو خطوة نحو الوراء لكل من يرى أنه يحقق مكسبًا كبيرًا من خلال تفرده بالخطاب الديني، وكونه قادرًا على أن يجرم ويكفر ويحرض دون مسؤولية قانونية. هذا التحول البراغماتي، لن يحدث إلا بسبب الشعور بحصول خسارة أكبر إن لم يحدث. هذه الخسارة قد تكون في العلاقة مع الدولة، أي إن الدولة تريد أن يحدث هذا التحول ؛لأنها لم تعد قادرة على تحمل هذا النوع من الخطاب العنيف تجاه المذاهب والفرق والتيارات والأخرى، أو تجاه أقلية محددة على الأقل، وللدولة أسبابها في ذلك. قد يكون الفزع والخوف من الانفلات الأمني والحرب الطائفية المدمرة، هو الدافع لهذا التحول البراغماتي، وهو ما أرجو أن يحدث، فما حصل في العراق، يجب أن يكون مخيفًا لنا. هذا القرب الجغرافي والزمني للأحداث الطائفية حولنا كفيل بأن يثير الرعب في كل التيارات والفرق، والأكثرية والأغلبية على السواء، واستدعاء رعب الحروب الأهلية والطائفية مهم جدًا في معرفة أنه في هذه الحروب يكون الخاسر هو الجميع دائمًا. لا أحد يربح، ولا أحد سيبقى وحيدًا، ويصل الجميع بعد حرب أهلية إلى اتفاق كان من الممكن أن يصلوا إليه قبل الدماء.