الحياة - سعودي ما إن يجتمع البشر إلا ويحتاجون إلى نظام يرتب لهم حقوقهم ويرتب عليهم واجباتهم، كما يحتاجون إلى نظام أخلاقي وتربوي يزكي نفوسهم. فالاجتماع يفرض التواصل والتعاون، والذي يتخذ أشكالاً من العلاقات وأنواعاً من المصالح. وفي طريق تحصيل تلك المصالح، وتشكيل تلك العلاقات يقع ما يجهل الناس علمه، أو يغيب عنهم تصوره، أو تختلف وجهات النظر فيه وحوله. ومن وجهة نظر دينية فقد ركزت الشريعة الإسلامية على بيان الحقوق الاجتماعية ومراتبها بحسب استحقاقاتها، وحرصت على انتظام الأحكام والآداب لهذا المقصد الكبير. وإن كان هناك نقص وتقصير في بعض المدونة الفقهية، فهو منسوب لعقل الفقيه وتجربته المجتمعية وليس إلى دينه. إذ أكدت الشريعة قيام الرابطة الاجتماعية على مبدأ الأخوة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، ومثلت الحالة النبوية هذا الحال (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)، وفي الحديث: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد»، «المؤمن للمؤمن كالبنيان»، ومما يلفت النظر أن تشمل آية واحدة 10 حقوق (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)، ويتركز اهتمام الشريعة بالتكوين العائلي، ومن تعبير ابن عاشور: «انتظام أمر العائلات في الأمة أساس حضارتها وانتظام جامعتها، فلذلك كان الاعتناء بضبط نظام العائلة من مقصد الشرائع البشرية كلها، وكان ذلك من أول ما عني به الإنسان المدني في إقامة أصول مدنيته بإلهام إلهي... ولم تزل الشرائع تعنى بضبط أصل نظام تكوين العائلة». انتهى. يبدأ النظام العائلي باقتران الذكر بالأنثى بطريقة شرعية ويكون ذلك من طريق الزواج والنكاح (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء)، (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ)، ويتم ذلك بقبول وإيجاب ممن يصح منه ذلك، وقد جعل الله الزواج آية من آياته (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وهو ما بدأت به الخليقة آدم وحواء (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، وفي كل تركيزات الشريعة على التأسيس الصحيح للعلاقة العائلية، تلبية للحاجات النفسية للبشري، إذ يلبي رغباته الجنسية وحاجته للعاطفة والحب، وحاجته أيضاً للتقدير والاحترام والاهتمام. في ما بين الزوجين تقوم العلاقة على الحب الكبير والذي يتشكل منه (مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)، كما يكون بينهما حقوق وواجبات تهدف إلى استقرار الزوجية وتفرعاتها. ومن هذا الزواج تتكون العائلة الكريمة، وتنشأ الحقوق وتترتب الواجبات، فالأمومة والأبوة والبنوة ثم بعد ذلك ما يكون بين البنوة من علاقات الأخوة وما ينشأ بين العائلات من المصاهرة، كل ذلك نظام بديع رائع جميل، ما كان ليكون لو لا انتظام العلاقة وفق أحكام الشريعة ومقاصدها. الأمر الذي يجب أن ترعاه كل العوائد والقوانين والنظم. كما يجب أن يتم تجريم العلاقات غير المشروعة، والتي لا تؤدي لدعم هذا البناء. ونحن في البلاد الإسلامية أحوج ما نكون لوضوح هذه الأسس الشرعية وإبرازها بطريقة قانونية مدنية في وقت تواصلت فيه الثقافات، وافتقر الوعي إليها. فكان لا بد من وضوح التشريعات وإعلان المبادئ، وبالتأكيد فإن العالم سيحترم المبادئ المعلنة والواضحة. ولن يحترم الشعارات الهلامية، والظواهر الصوتية. إن هذه الثقافة يجب أن تكون واضحة ومقننة. وليس للممانعة من تشريع قانون للأسرة (الأحوال الشخصية) أو التردد في تطبيقاته. ليس لهذه الممانعة أي معنى. في وقت تضيع فيه الحقوق، ويتحقق فيه الظلم على أسر يفرقها الشتات بين زوجين، وبين أم وطفلها، وبنت يعضلها وليها ويأخذ مالها، أو زوجة يضربها أو يقتلها زوجها. في أحداث باتت مكشوفة معلنة. وغير المعلن منها شيء كثير. نأمل أن تعمل محاكم الأحوال الشخصية في كل محافظة بقضاتها المدربين، وأن نراها بقانونها الذي ينهي متعلقات القضايا، ويحسم الاجتهادات الفرعية، ويحقق المصلحة ويصنع هيبة القضاء. لقد تأخرنا في ذلك كثيراً، وتحصلنا من ذلك على ظلم بقدر ما تأخرنا. ومع ذلك فلنبدأ بكل القوة ونحسم أمرنا، سدد الله الخطى. * عضو مجلس الشورى. alduhaim@ [email protected]