العربي الجديد اللندنية أبلغنا المحتلون، في ذروة حربهم الإجرامية القذرة على قطاع غزة، أن هناك محاولة انقلابية أعدت لها حركة حماس في الضفة الغربية. لم يتلقَّ الجمهور الفلسطيني في الداخل هذه الخبرية بجديّة. ليس لأن المصدر ووقت إبلاغه عن "المحاولة" مطعون فيهما، طالما أن إسرئيل هي التي أبلغت، وأن وقت الإبلاغ كان في أثناء القصف الإجرامي المروّع على قطاع غزة، فقد كان المحتلون المعتدون، وهم يمارسون الجريمة، معنيين بخلط الأوراق وب "تدعيش" "حماس" وبتحييد قيادة السلطة، لأن تحييدها في تلك اللحظات كان أهم من تحييد الولاياتالمتحدة على صعيد رسالة التبرير التي يطيّرونها للخارج. وكان ما يُحسب لقيادة السلطة، أنها لم تعط المحتلين النتائج التي أرادوها من دسيستهم، وإن كانت هي، وبعض من نُقلت إليهم الدسيسة، قد صدّقوا الرواية، من دون أن تلامس شكواهم الموقف الذي يريده المعتدون، وهو مجافاة "حماس" وغزة في تلك اللحظات العسيرة، وإظهار الفتور حيال العدوان على قطاع غزة. نحن، هنا، نضع المحاولة الإسرائيلية لدق هذا الإسفين، في موضع التحليل، ونسأل: هل يمكن أن تكون "حماس" قد غامرت فعلاً، قبل العدوان على غزة، وأعدت هذه المحاولة؟ الجواب: لو أنها فعلت ذلك، تكون وضعت نفسها أمام أحد خيارين، أحدهما أقبح من الآخر. إما أن تنفذ انقلابها وتنجح، وتستولي على الحكم في مناطق اللاحُكم المحتلة في الضفة، حيث يكون لمجرد التنفس احتياجات تنسيق مع الاحتلال، وحيث لا بد من تفاهماتٍ تضمن أداء قيادة السلطة، لدورها في حياة السكان. وعندئذٍ تفقد "حماس" كل معنى لخطابها وتخسر جمهورها. أما الخيار الثاني، فهو الذي يأخذها إلى مربع "داعشي" مطابق في موقفه وجنونه لموقف الطبعة الأصلية للدواعش في العراق، حيث يبدأ الأمر بتفوقٍ يشبه الاجتياح، فتُفتح الجبهات عليها من كل جهة، ويتوحد كل المتناقضين ضدها، لضربها بشدة والإجهاز عليها، وإلحاق الخسارة الفادحة ليس بحاضنتها الاجتماعية المفترضة، وإنما بالمناطق الآهلة التي فرضت عليها "داعش" أن تكون حاضنتها، بحكم وجود الناس في بيوتها ومدنها وقراها! من المفارقات أن المحاولة المزعومة جاءت في وقت تخللته أفضل المناخات في العلاقة بين "حماس" و"فتح". ولما كان صعباً على العدو المحتل تسويق خبريته العجيبة، لجأ إلى التلميح أن فرعاً متطرفاً من "حماس" يعمل، بمستوى أعلى من السرية، وبأجندة استثنائية، يقوم عليها أشخاص بعيدون؛ هو الذي يقف، مباشرة، وراء "المحاولة". ويعتمد هذا التلميح، على أن "حماس"، في النهاية، حركة مترابطة قوية التنظيم، ولجناحها العسكري هامش واسع من الحركة، وأن المستوى السياسي والتنظيمي لا يرد لهذا الجناح، في النهاية، مسعى أو رغبة! لم يكن في ذهن الذين تلقوا الخبرية، وهم يتأملونها، لمضغها وبلعها، غير فرضية ظنيّة تساعد على الهضم، وهي أن لحركة "حماس" أصدقاء ومساندين، لهم خطوط اتصال مع الإسرائيليين، يمكن من خلالهم التوصل مع الاحتلال إلى تفاهمات على ضمان السير السلس للحكم، في حال نجاح الانقلاب المفترض. وربما ذهب بعضهم الى أبعد من ذلك، فاستحضر أنموذج الحركة الإسلامية في أراضي احتلال 1948 ليقول إن إسرائيل لن تمانع في حال وُجد مثل هذا السيناريو للضفة، في وجود النسخة الثانية من ظاهرة الشيخ رائد صلاح وحركته، لأن هذه الظاهرة، وعلى ما في خطابها من حدة في إدانة سياسات الحكومة الإسرائيلية؛ ليست في الواقع سوى أحد اشكال التعبير السلمي، تحتويها دولة تتيح المجال للباحثين، وبعضهم من رؤساء الأقسام في جامعاتها، لدحض الرواية الرسمية عن الصراع والتشكيك في الأساس الأخلاقي والتاريخي لقيام دولة إسرائيل! غير أن هذه الفرضيات المتعلقة بحسابات إسرائيل، لا تنتقص من قبح الخياريْن اللذين ستجد "حماس" نفسها أمامهما، في حال نفذت انقلاباً في الضفة. من هنا، يجد كاتب هذه السطور نفسه على قناعةٍ بأن "حماس" لم تفكر في وضع نفسها أمام أيٍ من الخيارين، للأسباب التي ذكرناها، ولأسباب أخرى. فهي في فترة إبرام اتفاق توطئة لمصالحة شاملة، وكانت تمر بظروفٍ صعبة، إذ جرى تضييق الخناق على قطاع غزة، وهُدمت الأنفاق، وواجه السكان شُحاً كبيراً في المياه العذبة والكهرباء والطبابة، وفي حصاد صيد الأسماك وفي مساحة الأراضي الزراعية التي انهكتها القذائف الحارقة، وفي حركة السكان. وكانت "حماس" نفسها تواجه ضائقة مالية، سيفاقمها أكثر فأكثر، وبشدة، توسيع الرقعة الجغرافية لمسؤولياتها. وفي حال انفتاحها، وفق الخيار الأول على خط مساعداتٍ من الخارج (بموجب تفاهم مع الاحتلال على تكريس الحكم) سيكون قد عُلم بالشواهد، أن خطابها المعلن فقد معناه تماماً! يتطلب الوضع الفلسطيني، اليوم، قدراً كبيراً من الحكمة والتأني، حتى في ممارسة الخصومة، إذ بات من الضرورة بمكان ترشيد مفردات الخصومة نفسها وفرضياتها، حتى في حال انهيار الوفاق الوطني. المحتلون كاذبون، ولا حاجة للتأكيد على أنهم معنيون بالفتنة في كل أيامهم، ومعنيون بالتبرير في أيام اقتراف المجازر. ثم إن طرفي الخصومة اللذين هما طرفا اتفاق على حكومة وعلى وفد للتفاوض، لا يملكان، في خضم هذه المصاعب، ترف التمسك بحكم، أو السعي إلى حُكم. وكانت قيادة السلطة، في أيام العدوان تدفع بشدة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، بينما العدو كان يدفع بشدة، ويرتكب الفظائع، للاستمرار في الحرب، وصولاً إلى تحقيق هدف تصفية "حماس" في غزة. كان واضحاً أن السلطة ضد الحرب وأهدافها بالمطلق. ويصح القول، لو أنها تريد شراً ل "حماس" لسهلت عليها الاستيلاء على الحكم في الضفة، لو رغبت فيه، لأن في الاستيلاء مقتلها، في الخطاب وفي السياسة وفي الصدقية، أو في محرقة المواجهة مع الاحتلال في الأراضي المحتلة. لذا، ليست "المحاولة" المزعومة سوى إسفين يتوخى تحقيق ما ذكرنا من أهداف!