الشروق - القاهرة أرقام مساء الجمعة: 1497 شهيدا (من بينهم 1224 من المدنيين و358 طفلا و196 سيدة) الذين يقرأون هذه الأرقام التى تتزايد كل ساعة يستغربون أن الفلسطينيين «المحشورون هناك» مازالوا يقاومون. ويستغربون أكثر أن هؤلاء الذين لم يعد لديهم ماء ولا كهرباء ولا اطمئنان لسقف يؤويهم، يضعون «شروطا» لإنهاء هذه الحرب «غير المتكافئة». «أى جنون ذلك؟» هكذا يقول العابرون، أو المستلقون على أرائكهم أمام شاشات التليفزيون، دون أن يقرأوا «التفاصيل» جيدا. «لم يعد هناك ما نخسره، فالحياة كما كانت تحت هذا الحصار هى الموت بعينه.. لا فارق». العبارة «الموجِزة» قالها لمراسل الCNN فلسطينى بسيط، ملابسه ملطخة بدماء إبنته الصغيرة، موضحا: «أختها الأكبر ماتت مريضة قبل أشهر عندما لم نجد لحالتها العلاج المناسب فى القطاع المحاصر وفشلنا فى أن نعبر بها خارجه». «لم يعد هناك ما نخسره».. قطعت «جهيزة» إذن قول كل خطيب. ليست أكثر من «سجن كبير»، هكذا وصف غزة «المحاصرة» الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، عندما زارها قبل ستة أعوام، ملخصا مارآه «كشاهد عيان» فى مقال نشره على موقعه الرسمى (مايو 2008) فالعالم «يشهد الآن جريمة بشعة فى حق الإنسانية على أرض غزة، حيث يعيش أكثر من مليون من البشر داخل سجن كبير، ولا سبيل أمامهم للخروج، سواء بحرا أو جوا أو برا. إنه عقاب جماعى وحشى ...».. والتعبير للرئيس «الأمريكى» الأسبق، لا غيره. فى العام ذاته كتب اللورد باتين حاكم هونج كونج الأسبق والمفوض الأوروبى للشئون الخارجية سابقا، (والذى كان قبل زيارته وكرئيس لجامعة أكسفورد من أشد المعارضين للدعوة الدولية إلى مقاطعة الجامعات الإسرائيلية) يقول أنه بعد أن زار القطاع رأى كيف أن الحصار«يشكل جزءا أساسيا من السياسة الإسرائيلية، التى تتحدى بكل وضوح وصفاقة القانون الدولى وكافة القواعد والأعراف التى تحكم السلوك المتحضر» واصفا خطوته الأولى إلى داخل السجن / القطاع: « إذا حاولت دخول سجن مشدد الحراسة فقد لا تواجهك المصاعب والأهوال التى لابد أن تمر بها إذا حاولت دخول ذلك الشريط من الأرض الذى يمتد لخمسة وأربعين كيلومترا طولا، وربما ثمانية كيلومترات عرضا الذى يسكنه أكثر من مليون فلسطينى من أهل غزة. دخلت غزة محاطا بجدار بغيض وأبراج مراقبة كئيبة ومنطقة عازلة قاتلة، بتأشيرة دخول حصلت عليها بشِق الأنفس عند معبر ايريز بوابات حديدية، واستجوابات من قِبَل ضباط هجرة شباب متبرمين، وأجهزة استكشاف. وعلى الجانب الآخر عبرت ممشى مسيجا يمتد طوله كيلومترا واحدا ويؤدى إلى هذا الجزء من فلسطين، المحصور بين إسرائيل ومصر والبحر الأبيض المتوسط واللامبالاة العجيبة من جانب المجتمع الدولى». والنص بلا تصرف منقول من مقال «اللورد» البريطانى. قبل أن يذهب السياسى والأكاديمى البريطانى المخضرم ليكتشف «سجن غزة»، كان أستاذ القانون الدولى الأمريكى البارز ريتشارد فولك Richard A. Falk قد نشر كتبا ومقالات تكشف لنا ليس فقط الوضع فى غزة، بل والعقلية التى وراءه. أذكر منها ذلك المقال «التأسيسى» الذى نشره (يونيو 2007) فى دورية TFF عن الإجراءات النازية للإسرائيليين فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة وكان عنوانه الصادم للإنتلجنسيا اليهودية « Slouching toward a Palestinian Holocaust» هذه ليست مجرد آراء لسياسيين وأكاديميين غربيين، ففى الوثائق الأممية تقرير موثق أصدره مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية UN-OCHA فى أغسطس 2009 يستعرض فيه ما وصل إليه حال القطاع وسكانه بعد عامين فقط من الحصار (صار لنا الآن ثمانية أعوام). ويسرد التقرير بالأرقام فى 29 صفحة، ومن وجهة النظر الإنسانية البحتة لا السياسية نتائج «الحصار»؛ من تجويع، وتدمير «ممنهج» لسبل كسب العيش، وللبنية التحتية، وللعجز الدائم فى موارد الطاقة والمياه والكهرباء، فضلا عن تدمير ممنهج آخر للبنى التعليمية والصحية. (رابط التقرير باللغة الانجليزية / باللغة العربية) صدر التقرير الأممى فى أغسطس 2009، والمتابع للتقارير اللاحقة ذات الصلة. يدرك كيف زادت الأمور سوءا مع مرور الوقت، رغم كل الحلول الفطرية العبقرية لسكان القطاع/ السجن بمافيها «الأنفاق»؛ شريان الحياة غربا، وممر المقاومة شرقا. والتى «ردمتها» أخيرا تقلبات السياسة. على الأرض يبقى السؤال الأهم هو: ماذا فعلت مثل تلك الكتابات والتقارير والوثائق للمواطن الفلسطينى الذى تحدث إليه مراسل الCNN؟ الإجابة لا شيء. فبعد أن مرت ستة أعوام كاملة على تقريرها المؤلم، زادت فيها الأمور سوءا، فشلت الأممالمتحدة فى حماية مدرستها من القصف الإسرائيلى الذى استهدف القطاع قبل أيام، رغم تصريح نادر للإدارة الأمريكية يقول بأنه «لا شك لديها فى أن القذائف الاسرائيلية هى التى ضربت المدرسة» (للتذكرة: تاريخ القوات الاسرائيلية فى قصف مدارس الأطفال طويل. ففى الثامن من أبريل 1970 وبهدف الضغط معنويا على مصر لإنهاء حزب الاستنزاف قصفت طائرات إسرائيلية من طراز فانتوم مدرسة بحر البقر المشتركة فى قرية بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية فى مصر، مما أدى إلى مقتل العديد من الأطفال والتدمير الكامل لمبنى المدرسة) «لم يعد هناك ما نخسره». ليس فلسطينيوغزة البسطاء فقط، بل سياسيا أيضا لم يعد لدى حماس «القائد السياسى الفعلى لغزة» ما تخسره. فخريطة التحالفات «الطائفية» الجديدة للمنطقة أطاحت بالحلفاء القدامى؛ إيران وسوريا بل وحزب الله. وأعداء الثورات العربية تخفى بعضهم تحت لافتة «الحرب على الإرهاب»، فكان أن وضعوا حماس على «القائمة». وحمق الإخوان وخطاياهم فيما بعد الثورات؛ فى هذا القطر أو ذاك عصف بالحاضنة الشعبية التقليدية للمقاومة. فكان أن نسى الجميع أن إختلال ميزان القوى لصالح إسرائيل لن يكون أبدا فى صالح أمنهم القومى، فكان لافتا أن عشرات الآلاف خرجوا فى كل العواصم الأوروبية داعمين لغزة، فى حين خلت عواصم الجوار كلها من مثل تلك التظاهرات. بدا أن كل الجيران مشغولون بصراعات السلطة، وكل الأنظمة مشغولة بهواجس التغيير وطموحات جيل جديد. وكان هذا كله واقعا جديدا، يفرض سلوكا جديدا. خلاصة الأمر إذن فى هذه الناحية أن الفلسطينيين (مواطنين وسياسيين وفصائل مقاومة على اختلافها) رافضين إنهاء الحرب «غير المتكافئة» إلا لو ضمنوا «رفع الحصار»، أو بالأحرى لو ضمنوا أن يعيشوا ككل الناس فى كل العالم الذين لهم الحق «الطبيعى» فى الماء والغذاء والدواء والسعى والتنقل وكسب الرزق. الحرب غير متكافئة «عسكريا»، بكل تأكيد. ولكن الذى قرأ كلاوزفيتز Clausewitz يعرف أن الحرب ما هى إلا أداة من أدوات السياسة، ويعرف أن الحساب «الختامى» للمواجهات فى أى صراع لا يَحسب فقط أعداد النعوش ولا أرقام الضحايا. ونتائج أربعة أسابيع إلى الآن من الحرب بين «دولة محتلة وحركة تحرر وطنى» وإن كانت لم تختمر بعد، إلا أنها ستكتب بالضرورة صفحة أخرى مهمة من صفحات هذا الصراع الطويل، كما أنها سترسم، بالضرورة أيضا خطوطها الخاصة فى خارطة إقليمية يعاد رسم توازناتها. (وربما تفصيل ذلك يكون موضوعا لمقال قادم) فصافرات الإنذار لم تتوقف «للمرة الأولى» عن الدوى فى سائر أنحاء إسرائيل لما يقترب من شهر كامل. وللمرة الأولى أيضا يشعر المسترخون على شواطئ تل أبيب أن الصواريخ لو أفلتت من «القبة الحديدية» فربما تصل إليهم. سياسيا، نجحت حماس فى أن تتجاوز شيئا من المأزق «الكارثى» الذى كان بعد أن جرى ما جرى من الإخوان ولهم. وداخليا نجحت «المقاومة» أن تأخذ مكانها الطبيعى فى معادلات مابعد المصالحة. إسرائيليا، اتضح لأجيال جديدة فى إسرائيل «وعلى وهج القذائف الاسرائيلية المضيئة لسماء غزة» كيف أن «الأساطيرالمؤسسة» تظل ككل الأساطير أساطيرا. فلا «أرض بلا شعب»، ولن يمكن واقعيا «مهما تواطأ المجتمع الدولى» محو الفلسطينيين هكذا من على الخريطة. دوليا، بدا أن صيغة «إدارة الصراع بدلا من حله» والتى اعتمدها نافذو المجتمع الدولى قد فشلت. بعد أن اتضح أنها لن ترحم ضميره من الصور المفزعة التى تنقلها العدسات كل ساعة من أرض «المحرقة». إسرائيليا أيضا، بدا الكيان الصهيونى على شفا أن يخسر معركة «العلاقات العامة» التى كسبها لعقود، بوصفه المجتمع «الأكثر تحضرا» فى الشرق الأوسط. وبدت كتابات «هآرتس» تزداد قسوة وإيلاما. وعادت للذاكرة الجمعية مرة أخرى كتابات «المورخين اليهود الجدد»، وكتب الموسيقار الإسرائيلى الشهير Daniel Barenboim يدعو الإسرائيليين أن «يستمعوا جيدا» للفلسطينيين. كما كتب نائب رئيس الكنيست الاسرائيلى Hilik Bar فى الديلى تليجراف (11 يوليو) موضحا أن الحصار والتجويع والقمع وغياب الأمل فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة هو التربة الخصبة للعنف، حيث يتزايد الشعور بأن لم يبق غيره سبيلا للحياة أو للحصول على الحقوق. بدا باختصار أن كتاب جوزيف مسعد «The Persistence of the Palestinian Question» يستحق إعادة القراءة. ماذا جرى بالضبط؟ أليست إسرائيل هى الأقوى بكل المقاييس؟ نعم.. ولكن استراتيجيا، أغفل الاسرائيليون قاعدة هى ضمن القواعد الحاكمة لأى صراع: أن «للسلاح حدودا».. وأنك قد تخسر المعركة، عندما تصل بخصمك إلى نقطة يشعر عندها أن «لم يعد هناك ما يخسره». هل وصلت الرسالة؟ وبعد.. فربما «كسابقه» ليس فى هذا المقال جديد، فالمعلومات كلها موثقة ومنشورة من قبل وبكل اللغات، ولكننا أحيانا لا نقرأ. ومن ثم يصعب علينا أن نفهم: لماذا لا يأبه الناس هكذا بالموت؟ رغم أن الإجابة شديدة البساطة: «لم يعد هناك ما نخسره». قالها الرجل الملطخة ملابسه بدماء إبنته. والساكنة فى ذاكرته صورة إبنته المريضة الأكبر. «لم يعد هناك ما نخسره».. وبها قطعت «جهيزة» قول كل خطيب.