الشرق الأوسط اللندنية في لقاء عابر بمكان عام بأحد أهم الرموز العلمية والفقهية المؤثرة اليوم في العالم الإسلامي ممن يوصف عادة بالاعتدال والتسامح، كان الحديث عن انتهاكات «داعش» لصورة الإسلام السني خلال أشهر معدودة بما لم تفعله «القاعدة» وجماعات العنف منذ مصطفى شكري وصالح سرية وجماعات الجهاد المصرية وحتى التجربة القتالية العابرة للحدود، لكن الشيخ الجليل توقف طويلا عن أن ذلك لا يلغي «حلم» استعادة الخلافة الذي هو مطمح كل مسلم يحلم بارتفاع راية الإسلام خفاقة، وأن الإسلام لن تقوم له قائمة دون دولته. هذا النموذج «المعتدل» يعبر عن إشكالية كبرى في الخطاب الإسلامي متمثلة في النرجسية التي لم يستطع أن يفيق منها منذ سقوط الخلافة العثمانية ومن ثم نشأة خطاب ديني صحوي إسلاموي جديد مقطوع الصلة عن التراث ومقطوع الصلة عن الواقع الذي لا يستهجن فكرة الخلافة فحسب، وإنما يحيلها إلى ما يشبه المزحة الثقيلة. في ليبيا خطيب الساحة الكبرى صبيحة يوم العيد يتجاهل الوضع المزري الذي تعيشه بلاده التي تقف على أعتاب حرب أهلية طويلة المدى لكنه لم يتحدث إلا عن جراح «غزة» التي تتصدر المشهد اليوم وهذا متفهم ومطلوب لكن «غزة» التي نبكيها طويلا تسقط في «بئر» النسيان متى ما عادت الأوضاع اعتيادية في القطاع وذهب السياسيون من الطرفين لاقتسام حساب الأرباح والخسائر السياسية وليس الضحايا! واقع الأمة الإسلامية اليوم من غياب المرجعيات الدينية الفاعلة والمؤثرة، وعودة كثير من الخطابات الإسلاموية ذات الطابع المدني إلى مربع «تبرير العنف» مع التحفظ على إدانة فاعليه، لدينا فقط في منطقة محدودة كسوريا وعبر أزمتها الكارثية وضحاياها الذين يتجاوزون كل أزماتنا الجبهة الإسلامية وأجناد الشام ولواء أحفاد الرسول وفتح الإسلام والغرباء وجيش المهاجرين وكتائب عزام وجند الشام والقاعدة بتشكيلاتها، ولدينا أيضا داعش بأمير مؤمنيها وخليفتها.. كل هؤلاء يساهمون أكثر فأكثر في تعميق جراحنا النرجسية، من يصدق أن يتحول تنظيم وحشي دموي يتباهى أفراده بالتقاط الصور خلف الرؤوس المتطايرة إلى بديل تشرئب له نفوس من يدعون أنهم حملة رسالة الإسلام لا لشيء سوى نكاية في الأنظمة الحاكمة ومنازعة للسلطة السياسية وليس انتصارا لدين الله الذي يشكو من جهل أبنائه أكثر من كيد أعدائه (فقط تأمل في جرائم بوكو حرام وحالة الصمت التي يعيشها الخطاب الديني). العالم الإسلام اليوم لا يبشر بخير في ظل هذا الاستقطاب السياسي الذي تعيشه المنطقة، وفي ظل حال «الفشل» باتجاه أي تغييرات حقيقية في القضايا الكبرى العالقة التي باتت تستنزف الكثير من الجهد الذي كان يمكن أن يجير لحساب التنمية والتطوير والاستثمار في الإنسان. نحن نفتقد أساسيات الوعي بالمشكلة، نفتقد تقدير حجم الدمار الذي يحل بنا ببطء عبر تفريخ هذه الخلايا المتطرفة في كل أرجاء الأرض، والخروج الجماعي من الواقع العالمي إلى أحلام الخلافة ونهاية الزمان وكل الخطابات الاستعادية لأسوأ ما في التراث من نصوص الخرافة والكذب والدجل والتوظيف السياسي للدين (أحد نجوم السوبر ستار فاجأنا بتحديد من هم الطائفة المنصورة) على خلفية أحداث غزة. العقل الجمعي لمجتمعاتنا الإسلامية والعربية قد حوّل مسألة «الوعي بالمشكلة»، الذي يمثل الخطوة الأولى على درب الحل الطويل، إلى مشكلة بحد ذاتها، فالخطاب الثقافي السائد الذي تندرج تحته الرؤى السياسية والدينية والاقتصادية على اختلاف تياراتها حول مسألة الإحساس بالأزمة إلى حال جراح نرجسية حادة تشبه إلى حد كبير حال الذهول في بدايات الخروج من شرنقة الاستعمار إبان صعود الحضارة الغربية، وما أنتجته من مفاهيم ورؤى أخذت طريقها في الوقوف على أنقاض الرمق الأخير من الخلافة العثمانية التي تآكلت من الداخل بفعل الموات والتقليد والفساد قبل أن تصطدم بالخارج. هذا الجرح النرجسي الذي ننزف منه كل لحظة مع الإيغال في تشويه صورة الإسلام وتردي أوضاع المسلمين في الواقع لا يجعلنا نعترف بالأزمة بل نرحلها عبر البحث عن «مخلص» ما، هذا المخلص قد يكون أميرا للمؤمنين وقد يتمثل في مراهق عشريني يفجر نفسه على أمل أن تتغير الأوضاع. وهم المخلص هو اللاعب الرئيس في الوضعية المتردية الراهنة إلى الهروب من المشكلات من إخلال إنتاج وعي زائف يعلق مشكلاتنا على مشجب الآخر بل ويجعلها حصريا نتائج طبيعية لمؤامرات معقدة، ما يستلزم البحث عن مخلص تختلف أوصافه من طرح لآخر، فهو عند الخطابات الجهادية يتمثل في عودة سحرية إلى الماضي تتم من خلال الانطلاق من القاعدة الشعبية للمجتمع وصولا إلى الأعلى من خلال مقولات سلوكية تطهرية تبعث على المزيد من الاغتراب والانغماس في الجراح النرجسية، بينما هي عند الحركيين والإسلام السياسي منهم إعادة إنتاج فكرة المخلص الطوباوية، بإعطائها بعدا واقعيا بدأت هذه الصرعة في التصالح مع ثقافة التعددية، ممثلة في الديمقراطية، الغول الذي كان يشار إليه دوما بأصابع التجريم والإدانة، وإن كان على حساب معانقة الاستبداد والتخلف، ثم جاءت موضة المجتمع المدني وصولا إلى الانغماس في الوطنية والمواطنة والاهتمام بالداخل ومشكلاته على أمل الانفراد بأكبر حصة من كعكة المجتمع في ظل عدم وجود أي منافس وانشغال الأنظمة. وكما كانت حرب الخليج و11 سبتمبر والربيع العربي محددات كاشفة لتحولاتنا غير الحقيقية والزائفة بدليل أن التسامح والمساواة والتعددية الثقافية والإيمان بوجود الآخر وأحقيته بالمشاركة مفقودة في أجنحة هذه التيارات الداخلية، وإطلالة يسيرة على منجزه الثقافي والفكري، ولو بشكل عشوائي، كفيلة باستخراج الفرق الضخم بين الاستخدام المصلحي والنفعي لتلك المفاهيم.. التحولات الحقيقية لم تطَل بنية الجسد الإسلامي وعقله وإنما مسّت في فترات تاريخية مصالحه السياسية واقتضت منه التحالف مع الأنظمة ثم لاحقا الاستقواء بالغرب والآن الانكفاء على سلاح العنف الذي يحرّك الأوضاع ويجذب اهتمام العالم بنا بحثا عن مصالحه الكبرى في منطقتنا، تلك المصالح (ويا للغرابة) هي ما تجعلنا معلقين بين العالم الحقيقي وعالمنا النرجسي. [email protected]